عيد النصر الروسي المتنقل من حرب إلى حرب

بسام مقداد

في مشهد من عالم اللامعقول،َ نشر إعلام الكرملين شريط فيديو يصور لقاء بوتين مع النساء الأرامل والثكالى الروسيات بمناسبة اليوبيل الثمانين للانتصار على ألمانيا النازية. والمشهد اللامعقول، ليس اللقاء بذاته، بل الحديث الذي دار بين بوتين والنساء المتشحات بالأسود: أنا أرملة الضابط … شكراً فلاديمير فلاديميروفيتش؛ أنا والدة العسكري القتيل… شكراً فلاديمير فلاديميروفيتش. مصممو شريط الفيديو حرصوا على التعددية الإثنية للنساء، فكنّا من مختلف الشعوب الروسية، لكنهن قدموا شكرهن لبوتين على مقتل أزواجهن وأبنائهن باللغة الروسية، وليس بلغاتهن القومية. ومن نقل شريط الفيديو من المدونين والمعلقين، اعترف بعجزه عن إيجاد الكلمات التي تعبر عن المشهد، بل ترك للمشاهد أن يعلق على فظاعة ما يشاهد: أرامل وثكالى يتقدمن بالشكر لقاتل أعزائهن، حين أرسلهم إلى الموت في حرب عدوانية.

المشهد ليس من فضاء اللامعقول بالنسبة للبنانين. فهم اعتادوا على مشهد أشد قسوة واستعصاءً على تقبله من عقل بشري سوي، حين يشيع حزب الله شهداء حرب إسناده المتواصلة في تجمعات “تبريك بالشهادة”، و”نزف إليكم …الشهيد السعيد”، وتودع الأم الثكلى إبنها بـ”فدا السيد” أو حتى “صرمايته”.

تقديس الموت وازدراء الحياة، سمة مشتركة بين العقول البشرية التي تقع أسيرة عقيدة أو أيديولوجية أو مجرد فكرة ، تجعله يؤمن أنه “دائماً على حق”، وأن الحياة تهون في سبيل الدفاع عن “حقيقته”. والعقيدة التي تعطب العقل البشري على هذا النحو، تتموه بلبوس متنوع، ديني، وطني، اجتماعي وغيره. وفكرة “الوطنية” التي شحذها بوتين من مفهوم الوطنية الإنساني المميز لكل عاقل، تحولت إلى أداة قاتلة بيد آلة البروباغندا الهائلة التي تحاصر الإنسان الروسي، وتلاحقه في كل تفاصيل يومياته، عطلت عقله وجعلته يشبه المخدر دينياً، ويقدم الشكر لقاتله.

النصر الذي صنعته شعوب الاتحاد السوفياتي، بمن فيها الشعب الأوكراني، يجهد بوتين لمصادرته بإسم روسيا وشعبها، ويحتفل بيوبيله الثمانين في ظل حرب يشنها على الشعب الأوكراني الذي قاسى من الاحتلال النازي على قدم المساواة مع الشعوب السوفياتية الأخرى، إن لم يكن أكثر. فقد اجتاح هتلر في الأيام الأولى لغزوه أوكرانيا باكملها، وخرج منها في نهاية الحرب وعاصمتها كييف شبه أطلال.

ومع كل معاناة الأوكران من النازية، يشن بوتين حربه عليهم ليقضي على “نازيتهم الجديدة”، التي يزعم أنها تهدد روسيا مرة أخرى. لكن الاتحاد السوفياتي قاتل النازية جنباً إلى جانب مع الأوروبيين، وبوتين الآن يحارب الأوروبيين وكل الغرب عبر اوكرانيا. تحالف الاتحاد السوفياتي مع الغرب وفر له قسماً كبيراً مما كان يحتاجه من أسلحة وتقنيات عسكرية متطورة للصمود بوجه هتلر. وعداء بوتين للغرب اضطره للجوء إلى إيران وكوريا الشمالية للحصول على مساعدة ما في حربه على الغرب عبر أوكرانيا.

ذكرى الحرب، هي لحظة تأمل واسترجاع صور من فقد الإنسان، والمقارنة بين ثمنها ونتائجها، وهل أدت إلى السلام وتحسين ظروف الحياة. وفي خضم مشاغل الحياة ومتطلبانها، يتعذر على الإنسان جعل الذكرى شغله الشاغل، والعودة إلى الحرب وتفاصيلها وأهوالها. ويلقى كل ذلك على عاتق المؤرخين والسياسيين ليجعلوها حاضرة دوماً في أذهانهم من أجل عدم تكرارها.

حتى ستالين الذي سجلوا النصر باسمه، وبعد أول احتفال بالنصر العام 1945، ألغى الاحتفال والعرض العسكري بمناسبته، وكذلك التعطيل عن العمل في هذا اليوم. وفي المراحل التالية عاد السوفيات بعد مدة للاحتفال بيوم النصر، ولم يكن يترافق مع عرض عسكري سوى في سنوات اليوبيل.

لكن بوتين جعل الاحتفال بالنصر سنوياً، ويترافق مع عرض عسكري كبير. ويستخدمه واحداً من أهم مكونات حملات البروباغندا وأداة تجييش وحشد للروس حول حكمه، خصوصاً في سنوات حربه على أوكرانيا، حيث لم يعد واضحاً هل هو احتفال بالنصر أم إعداد لنصر موعود في أوكرانيا.  كما جعل من تاريخ الحرب العالمية الثانية، أحد اتجاهات حربه مع الغرب الذي يتهمه بتزوير تاريخ الحرب والافتئات على دور الاتحاد السوفياتي فيها. وفي الحديث عن الحرب والنصر، يتقصد بوتين الخلط بين الاتحاد السوفياتي وروسيا، وذلك للتقليل من دور الجمهوريات السوفياتية في الحرب، ومحاولة تسجيل النصر فيها باسم روسيا فقط.

بدأ بوتين الإعداد لليوبيل الحالي في صيف العام 2023، وأصدر مرسوماً بتشكيل لجنة تنظيمية برئاسة مسؤول ديوان الرئاسة، مهمتها “تخليد ذكرى شهداء الحرب”، وتنظيم النشاطات في هذه المناسبة. والنشاطات لا تقتصر على يوم اليوبيل فقط، بل تمتد عل مدار السنة التي أصدر مرسوماً بتسميتها “سنة الدفاع عن الوطن”.

يوم النصر أخذ يطلق عليه منذ سنوات “جنون النصر”. والجنون هذا يضرب ليس روسيا فحسب، بل يصيب الجاليات الروسية في الخارج والهيئات والجمعيات المرتبطة بروسيا، مثل جمعيات خريجي روسيا والاتحاد السوفياتي السابق. ويذكر اللبنانيون حين شاهدوا على مر عدة سنوات لوحات إعلانية كبيرة تحمل كتابة باللغة الروسية تهنئ الشعب الروسي بالنصر. وكانت تسير في الكثير من مدن العالم، بما فيها في بيروت، مسيرات المغتربين الروس وأصدقائهم بإسم “كتيبة الخالدين” ، يحملون فيها صور أسلافهم الذين قتلوا في تلك الحرب. وفي إحدى السنوات صدف وجود نتنياهو في موسكو في يوم النصر، فسار جنباً إلى جنب مع بوتين في صفوف “كتيبة الخالدين” وهو يحمل على صدره شريط النصر وصورة أحد اليهود المعروفين من ضحايا الحرب.

موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW نقل في 7 الجاري عن عدد من الألمان العاملين في المتاحف والحدائق والمؤسسات المرتبطة بذكرى الحرب العالمية الثانية. استهل الموقع نصه بالإشارة إلى أن وزارة الخارجية الألمانية أشارت على القيمين على النشاطات المكرسة لليوبيل الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية بعدم دعوة الممثلين الروس والبيلوروس إلى هذه النشاطات، وفي حال حضورهم من دون دعوة، العمل على طردهم بالوسيلة التي يراها المنظمون للنشاط، التي لا تضر بمصالحهم. وتنظيم النشاطات التي تبلغ 50 نشاطاً، تولتها منظمة ثقافية بالتعاون مع منظمات أخرى مشابهة.

رداً على سؤاله كيف يرى اليوبيل في ضوء الوضع الجيوسياسي القائم، وما هو دور روسيا برأي المنظمات التي تولت إقامة النشاطات، قال مدير المنظمة الثقافية المعنية بأن السنوية الحالية، حتى لو كانت في سياق مختلف عما كان قبل عشر سنوات، تكتسب أهمية بالغة. فحرب روسيا في أوكرانيا تمثل وضعاً ماساوياً، “ونحن نشعر بهذه الأهمية، فهي حرب حاضرة وليست ماضية”. وقال بأن المنظمين يريدون من الجيل الذي لم يشهد الحرب، أن يتحسس ما هي الحرب، حين يقول بأنها الخيار الطبيعي الوحيد.

تلك الحرب قد انتهت، لكنها في الحقيقة تستمر في مكان ما، ونهاية الحرب ليست بعد حلول السلام. لقد مر ثمانون عاماً، ونرى هشاشة السلام الذي أعقبها. ويعتبر أن السنوية الحالية تكتسب أهمية أكثر مما كانت عليه سابقاً، لأن شهود العيان عليها يتضائل عددهم. وأشار إلى أنه بعد ايام سيجتمعون مع احد من شارك في الحرب، ويبلغ من العمر 103 سنوات.

يشير مدير المنظمة إلى أن النصر لم تحققه روسيا، بل الجيش الأحمر الذي كان يضم ممثلي الشعوب السوفياتية، بمن فيهم اوكرانيا والأوكران. وقال بأنه لا ينبغي القول بأن روسيا كانت عضو التحالف المعادي لهتلر، بل الاتحاد السوفياتي.

 

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى