
بعد كندا، تأتي نتائج الانتخابات الأسترالية بتغير مفاجئ في دفة مزاج المصوتين تجاه يسار الوسط. خسارة المحافظين في البلدين الناطقين بالإنكليزية والعضوين في تحالف “العيون الخمس” كان رداً عكسياً على وصول ترامب إلى البيت الأبيض في فترة رئاسة ثانية، وعلى سياساته العدوانية ضد الحلفاء قبل الخصوم. لكن لا يجب أن يدفعنا هذا إلى افتراض أن ثمة موجة سياسية موحدة في العالم الأنكلوسكسوني نحو يسار الوسط، فنتائج الانتخابات المحلية التي جرت في بريطانيا في الأول من الشهر الجاري، تمنحنا مؤشرات عكسية، وأكثر جذرية.
يكتسح حزب “الإصلاح” الانتخابات المحلية مزيحاً حزب المحافظين عن موقعه كحزب المعارضة الرئيسي. الحزب الذي تأسس في العام 2018 فقط قفزت حصته من 29 مقعداً في الانتخابات السابقة إلى 677 مقعداً هذه المرة، فيما خسر حزب المحافظين أقدم حزب بريطاني، ويقال إنه أقدم حزب سياسي في العالم، ثلثي مقاعده دفعة واحدة، لتهبط حصته من 945 مقعداً إلى 319 فقط، وبالمثل خسر حزب العمال الحاكم ثلثي مقاعده، ليهبط من من 296 مقعداً إلى 98، متذيلاً قائمة الأحزاب في المرتبة قبل الأخيرة، ليسبق في الترتيب حزب الخضر الذي وإن أتى أخيراً، إلا أنه حسّن نتائجه عن الانتخابات السابقة.
لا تحمل الانتخابات المحلية أهمية كبيرة في السياسة البريطانية، إلا أنها تعد مؤشراً على التحولات في ميول الناخبين، وقد تساعد على التنبؤ بنتائج الانتخابات العامة اللاحقة.
لوقت طويل احتفظت السياسة البريطانية المحافظة والغارقة في تقاليدها بنظام الحزبين، حيث يتقاسم حزبي المحافظين والعمال ولاءات الناخبين وأصواتهم، بحظوظ أوفر للأول في تشكيل الحكومات واستمرارها. ولعب حزب الديمقراطيين الأحرار دور رمانة الميزان في المشهد السياسي، مما مكنه في الدخول أحياناً في حكومات ائتلافية مع واحد من الحزبين الكبيرين، عبر اقتناص الأصوات الغاضبة من كلاهما. بهذه الطريقة احتفظت السياسة البريطانية بوسطيتها المدعاة، أو بلعبة الكراسي الموسيقية، يتبدل الرابح فيها بشكل دوري من دون مفاجآت.
في العقدين الماضيين، شرعت حصص المحافظين والعمال من أصوات الناخبين في التراجع بشكل متواتر، وإن حافظ نظام الانتخاب الفردي على هيمنة الحزبين على السياسة البريطانية. إلا أن نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة تصل بحالة التشظي التصويتي إلى أفق جديد وغير متوقع في أعرق ديمقراطية في العالم، كما يحلو لأصحابها وصفها، حيث حصل حزب “الإصلاح” الشعبوي ذو التاريخ القصير على الحصة الأعلى من أصوات الناخبين، ولو تكررت النتائج ذاتها قد يصل زعيم الحزب، نايجل فاراج إلى منصب رئيس الوزراء.
كان نايجل فاراج قد نجح في السابق، وهو على رأس حزب الاستقلال البريطاني، في تحقيق هدفه بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بعدها أطلق المحللون السياسيون زفرة ارتياح للخلاص من التهديد الذي مثله فاراج، حيث أن حزب الاستقلال بحسبهم كان حزب القضية الواحدة، ومع تحققها يفقد الحزب مبرر وجوده. وهو ما حدث بالفعل حين انفجرت فقاعة شعبيته بعد “البريكست”. بل وخسر فاراج مقعده في الانتخابات العامة، وبعدها تفرغ لجولات في الولايات المتحدة وشرق أوروبا، لدعم ترامب وأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية. لكن سرعان ما عاد فاراج على رأس حزب الإصلاح ليزلزل الساحة البريطانية السياسية الهشة لمرة ثانية في أقل من عقد.
لا يقدم الحزب سياسات متماسكة ويكتفي بدعوات لتفريغ غضب الناخبين ضد أهداف سهلة، مثل وضع اللاجئين في خيام بدلاً من غرف الفنادق، وإلغاء سياسات التنوع ومنع موظفي المجالس المحلية والإدارات الحكومية من العمل من المنزل وإعادتهم إلى المكاتب.
تتخلف نسبة كبيرة من الناخبين عن الانتخابات المحلية، وعلى الأرجح لن تتكرر نتائج تلك الانتخابات في الانتخابات العامة المقبلة كما هي. حكومة حزب العمال من جانبها تنبهت للتهديد التي تتعرض له، وبدأت في مراجعة سياساتها التي لا تحظى بشعبية. لكن مع هذا، تشي تلك النتائج الأخيرة في سياق التحولات في السياسة الدولية بالعموم، بأن ترتيبات الحكم ودولة الرفاه في العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية قد وصلت إلى نقطة الأفول.
المصدر: المدن