
بعد سنوات غياب، يعود فضل شاكر إلى الواجهة عبر الدراما الوثائقية “يا غايب” (منصّة شاهد)، مثيراً على عادته جدلاً ما زال مستمراً. لا ليغنّي، بل ليحكي قصّة تحوّله من نجم إلى مطارد بتهم إرهاب. حكت عيناه حنيناً إلى الأضواء، بينما نطق لسانُه بشعور الخيبة والانكسار، وبدا، في مجمل المشهد، لا مجرّد فنّان “ضالّ”، بل أيضاً واحداً من ضحايا واقع مستقطب اجتماعياً، سياسياً وطائفياً، يطحن أبناءه كلّ يوم.
نشأ في أحد أكثر الأماكن هشاشةً في لبنان، مخيّم عين الحلوة في صيدا، وتشكّلت ملامح شخصيته وسط أزقّة مكتظّة، ومنازلَ متلاصقةٍ لا تعرف خصوصيةً، ضمّت فلسطينيين ولبنانيين باتوا جزءاً من طبقة لبنان الدنيا الآخذة في الاتساع، خزّنت ذاكراتهم الغضب المكبوت والشعور بالإقصاء. هناك، لم يكن سهلاً على فتىً موهوبٍ أن يحلم بالفنّ، فالحياة اليومية تفرض أولويات البقاء لا مواهب التعبير. علا صوتُه، رغم ضجيج الأزقّة والباعة المتجولين، جاذباً الأنظار في الحفلات الشعبية. ورغم إمكانات صوته المتواضعة، سرق إحساسُه ودفءُ صوته، قلوب جمهور واسع منذ مطلع الألفية الثالثة، قبل أن يختفي من الساحة الفنّية، ليعود (2013) ضمن مشهدٍ مختلفٍ تماماً بجانب الشيخ السلفي أحمد الأسير، في خطاب أيديولوجي ديني وطائفي متصاعد، موجّه ضدّ “الآخر”.
في عام 2013، اتهم فضل شاكر بالتورّط في قتال الجيش في عبرا (شرق صيدا)، وعبّر عن فرحته بمقتل شخصين (قيل إنهما جنديان). تحوّل شاكر من مطرب إلى مطلوب للعدالة. في حلقات “الوثائقي”، يعبر فضل شاكر عن ندمه أحياناً، ويدفع في أخرى تهماً عن نفسه، وهي تهمٌ صدّر فيها القضاء العسكري بحقّه أحكاماً غيابيةً لا سبيل لإسقاطها إلا بإعادة المحاكمة، لكنّ فضّل شاكر يريد محاكمة عادلة أمام قضاءٍ مدنيٍّ لا نفوذ لحزب الله فيه، كما يقول. ويطرح “الوثائقي” تساؤلاً عميقاً: هل كان شاكر فاعلاً حرّاً في هذا التحوّل، أم أنه انجرف نتيجة شعور بالظلم والتهميش الطائفي الذي يعيشه كثيرون من السُّنة في لبنان بعد عام 2005، أي منذ مقتل رفيق الحريري، وتصاعد قوة حزب الله الشيعي وسلاحه، ليصبح دولةً داخل الدولة، وسلطةً فوق السلطة؟
رغم أخطائه الجسيمة، هو ابن بيئةٍ خذلها اختلال ميزان القوى، ففي حين يُلاحَق أيُّ مسلّح لبناني بتهمة الإرهاب، يُتغاضى عن سلاح حزب الله، الذي لم يقاتل إسرائيل فحسب، بل أيضاً معارضي الأسد السُّنة، مسلّحين ومدنيين، محتفظاً بترسانته العسكرية، مسيطراً على قرارات استراتيجية في الدولة. وفي “عبرا” عبرة، فالمعركة لم تكن مجرّد عملية أمنية تبدو ضروريةً، بل تُقرأ رسالةً واضحةً أن السلاح غير الشرعي مسموحٌ في ضفةٍ وممنوع في أخرى، ما أفقد لبنانيين الثقة في الجيش، وكرّس في حينه شعورَهم بأنه خاضع للتوازنات السياسية الطائفية.
يحاول “الوثائقي” تفكيك سياق مركّب انتهى بفضل شاكر إلى ما أصبح عليه (وفيه)، فلم يكن رجلَ مليشيا محترفاً، بل فنّاناً تخلّى، في لحظة معينة، عن نفسه وفنّه وسط بلد يتآكل فيه القانون، وتُقاس العدالة فيه بمقياس الطائفة والانتماء السياسي. وفي هذا لم يكن أوّل من يتوه في أتون فوضىً لبنانية مستمرّة منذ الحرب الأهلية، فجرفه (وغيره) اعتقادهم بإمكانية التغيير بخطاب طائفي أو سلاح “رديف”، وكانت النتيجة دائماً مزيداً من الخسائر الشخصية والعامّة.
من مخّيم عين الحلوة، يغني من جديد، فيتلقّف بعضُهم منتجه فنّاناً مظلوماً ضحيةً لاستقطاب طائفي، ويراه آخرون “إرهابياً” ظالماً لا تغفر له أيّ محاولات فنّية، وتستمرّ قصّته مرآةً مكسورةً لبلد تأرجح طويلاً بين الدولة واللادولة، بين الطائفة والمواطنة، بين السلاح الشرعي وغير الشرعي، صوتاً ضاع في زحمة البنادق، وتحوّل من نجمٍ إلى شخصٍ على هامش القانون، فهم السياق يضعنا قبالة الصورة كاملة: ليس بطلاً، لكنّه ليس شيطاناً مطلقاً، هو ابن لحظة اجتماعية سياسية مأزومة طائفياً تنتج مزيداً من الضحايا من قمّة هرم الاجتماع وحتى من لا صوت لهم.
هل قدر المنطقة أن يكون الإنسان مظلوماً وظالماً في معادلةٍ طائفيةٍ صفرية؟ هي معادلة يفرضها الواقع ويرفضها الحسّ السليم.
المصدر: العربي الجديد