
في اليومين الفائتين، أُسيل الكثير من “الحبر المتشنج” في معرض التعليق على الاتفاق الذي وقّعته الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية مع الشركة الفرنسية “CMA CGM”، لاستثمار محطة الحاويات بمرفأ اللاذقية. ووردت الكثير من المغالطات والأحكام المفتقدة للدقة في المعلومة، في خضم سيل من تعليقات إعلاميين ومؤثرين سوريين، كان من الواضح، أن الخلفية السياسية المشحونة على وقع أحداث جرمانا وصحنايا الدامية، قد لطخت موضوعيتها في التحليل.
من ذلك، اعتماد البعض على دلالة “الدخول الفرنسي” لتنفيذ استثمار ضخم، بهذا الحجم وبهذا التوقيت، ليؤشر إلى “الثقة” بمستقبل استقرار نظام الحكم الجديد القائم اليوم في دمشق. ومكمن عدم الدقة في هذا التحليل، يتعلق تحديداً باعتماده على مؤشر “الدخول الفرنسي” على خط الاستثمار في مرفأ اللاذقية، مما يوحي بأن أصحاب هذا التحليل ليسوا من المتابعين بعمق للشأن الاقتصادي السوري، وربما لا يعلمون أو تجاهلوا أن الشركة الفرنسية المشار إليها، هي المستثمرة لمحطة حاويات مرفأ اللاذقية منذ خريف العام 2009. وقد استمرت الشركة الفرنسية في استثمارها هذا، رغم كل الظروف القاهرة خلال 14 سنة من الفوضى والصراع المسلح الذي اندلع بعيد العام 2011.
انتقد البعض الآخر البروتوكول الذي أُديرت بموجبه مراسم توقيع الاتفاقية في قصر الشعب بدمشق. حيث وقف الرئيس السوري، أحمد الشرع، خلف الموقِعَين، رئيس هيئة المنافذ، قتيبة بدوي، والمدير الإقليمي للشركة الفرنسية، جوزيف دقاق. ونتفق مع هذا الانتقاد، إذ لا نظير للرئيس في هذا الموقف، ولم يكن من داعٍ لوقوفه فيه. حتى أن توقيع الاتفاق داخل قصر الشعب، يبدو غير مبرر أيضاً، إلا إذا نظرنا للأمر من جهة محاولة السلطة بدمشق، استخدام الاتفاق وحجم الاستثمار الكبير فيه، للتغطية على الجدل الساخن المندلع على خلفية أحداث جرمانا وصحنايا، خلال اليومين السابقين فقط، لتوقيع الاتفاقية. فالأحداث كانت مضرّة لمصداقية السلطة وقدرتها على ضبط الوضع الداخلي. لذا أرادت استغلال هذه الاتفاقية، لإرسال رسالة ثقة للداخل وللخارج أيضاً.
لكن في المقلب المضاد، تحمل الاتفاقية دلالات اقتصادية وسياسية، ملفتة بالفعل. ويبدو الاستثمار الدعائي فيها، من جانب السلطة، مفهوماً من هذه الزاوية. فهي أضخم استثمار خارجي في سوريا، ليس فقط منذ سقوط نظام الأسد، كما كتبت بعض الأقلام، بل منذ العام 2019، حينما منح نظام الأسد استثمار مرفأ طرطوس لشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، لـ49 عاماً، مقابل نصف مليار دولار.
وفي تفاصيل الاتفاقية، كانت المدة 30 عاماً مقابل ضخ استثمارات بقيمة 230 مليون يورو، خلال أول خمس سنوات، مؤشراً لا يمكن تجاهله، على ارتفاع الرهانات الإيجابية للمستثمر الفرنسي حيال المستقبل في سوريا.
لم يكشف مسؤولو هيئة المنافذ السورية، عن التفاصيل الدقيقة لآلية تقسيم الأرباح. إذ تمت الإشارة إلى “آلية تصاعدية”، فترتفع نسبة الدولة كلما زاد حجم المناولة وعدد الحاويات. ووفق الاتفاق، تبدأ حصة الدولة عند مستوى معين –لم يتم الكشف عنه- لترتفع تدريجياً وصولاً إلى 70%، مقابل 30% للشركة الفرنسية المشغلة، التي ستتحمّل كافة النفقات التشغيلية.
بالمقارنة مع بنود اتفاقية العام 2009، والتي بموجبها بدأت الشركة الفرنسية “CMA CGM” -بشراكة مع شركة سوريا القابضة حينها- باستثمارها لمحطة حاويات مرفأ اللاذقية، تبدو الاتفاقية الجديدة في صالح الدولة السورية، بصورة أكبر. إذ نصت اتفاقية العام 2009، على حق استثمار المرفأ لمدة 15 عاماً، قابلة للتمديد 5 أعوام أخرى، عبر ضخ استثمارات بقيمة 45 مليون دولار، وبحجم عائدات للدولة السورية 40%. أي بوسطي 3 مليون دولار، كاستثمار سنوي، مقارنة بنحو 7.5 مليون يورو، وسطي استثمار سنوي، وبعائدات للدولة تصل إلى نحو 70%، بموجب الاتفاقية الجديدة. أما بالمقارنة مع اتفاقية النظام السابق مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لاستثمار مرفأ طرطوس، نجد وسطي الاستثمار السنوي، بنحو 10 مليون دولار. لكن الشركة الروسية لم تلتزم بتنفيذ بنود تطوير المرفأ، الذي بقي على حاله منذ استلام الروس له عام 2019.
من الزاوية السياسية، للاتفاقية دلالة لا تخطئها عين المراقب. خصوصاً إن ذكّرنا بطبيعة المكانة التي تحتلها شركة “CMA CGM”، بوصفها إحدى أيقونات الاقتصاد الفرنسي. والعلاقة الخاصة التي تربط أصحابها من آل سعادة (الفرنسيين- اللبنانيين من أصول سورية)، بالنخبة السياسية الفرنسية، وبالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصياً. حتى أن بعض وسائل الإعلام الفرنسية سبق أن تحدثت عن دور محوري لهذه الشركة بالنسبة للحكومة الفرنسية، على الصعيد الاستراتيجي والاستخباراتي أيضاً. وكان لافتاً أن أول تواصل شخصي مباشر بين ماكرون والشرع، كان في اتصال هاتفي، جاء بعد ساعات فقط من إعلان الاتفاق المبدئي بين الجانب السوري وشركة “CMA CGM”، في مطلع شهر شباط/فبراير الفائت.
هو ليس “دخولاً فرنسياً” إلى سوريا، بل إصرار على تعزيز موطئ قدمٍ استثماري واستراتيجي، بالنسبة لباريس، على ساحل شرق المتوسط الغني بالثروات الباطنية، قريباً من تركيا، التي كانت حتى الأمس القريب، في حالة نزاع علنية مع فرنسا، وحليفيها اليوناني والقبرصي، حول حقوق الاستثمار في موارد ذاك الحيز البحري. ونستطيع أن نقول إن اتفاقاً كهذا ما كان ليتم لولا الضوء الأخضر التركي. وهي دلالة أخرى للاتفاق، بوصفه مؤشراً على هامش الحركة الذي منحته أنقرة لحليفها في دمشق، كي يوطّد علاقاته مع قوى دولية وإقليمية معنية بسوريا، بصورة تُشعِر هذه القوى أن الحكومة السورية ليست أسيرة الإرادة التركية.
المصدر: المدن