
تعتزم الحكومة الصومالية الفيدرالية المضي نحو تنظيم عملية انتخابية شاملة ومتتالية تشمل الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويُعد هذا التوجه جديداً بالنسبة لهذه الحكومة التي تواجه تحدّيات أمنية وسياسية واقتصادية متداخلة ومعقّدة، أبرزها التهديد الأمني المتمثل في حركة الشباب المجاهدين، إلى جانب تصاعد الخلافات السياسية مع إقليمَي بونتلاند وجوبلاند، ونزاعها مع صوماليلاند الانفصالية شمالاً، فضلاً عن ملفّات التنمية المحلية المتنوعة.
قد تُعدّ هذه المحاولة خطوة إيجابية نحو استعادة الدولة الصومالية من خلال تعزيز مؤسسات الشرعية الدستورية، التي تتقدّم ببطء شديد منذ مؤتمر عرتة في جيبوتي عام 2000، الذي شكّل نقطة انطلاق لمشروع المصالحة الوطنية الصومالية. لذا، يُعد التوجه نحو إعادة السلطة للشعب عبر صناديق الاقتراع ومبدأ “صوت لكل مواطن” مشروعاً طموحاً ومهمّاً يحتاج دعماً وتشجيعاً من جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، لتعزيز استعادة الدولة الصومالية، شريطة أن يسبقه حوار ومصالحة وطنية شاملة.
يتساءل بعضهم: هل هذه الخطوة جادّة؟ وهل تستطيع الحكومة الصومالية بمفردها تحمّل مسؤولية هذا المشروع الديمقراطي؟ وإلى أي مدى يمكن أن يسهم في تعافي المجتمع في ظل بطء التعافي السياسي والتنموي والأمني، ووسط حالة الاستقطاب الإقليمي التي ترى بعض القوى أن استقرار الصومال يتعارض مع مصالحها غير المشروعة في هذا البلد الغني بالثروات المهدورة؟
التفاؤل بالمسار الديمقراطي في الصومال لا يكتمل من دون تهيئته بمصالحة وطنية حقيقية
المسار الديمقراطي خطوة جوهرية لتحقيق الإصلاح والتنمية والاستقرار السياسي في الصومال، لكن التفاؤل بهذا المسار لا يمكن أن يكتمل من دون تهيئته بمصالحة وطنية حقيقية على جميع المستويات. وفي المقدمة يأتي تدشين حوار وطني صومالي لا يستثني أي طرف، ويضم كل فئات الشعب في الداخل والخارج، لوضع خريطة طريق للنقاش والتأسيس لمرحلة سياسية جديدة تقوم على قواعد دستورية توافقية يلتزم بها الجميع، ويعملون على تحويلها إلى واقع ملموس.
بدون هذا المدخل، ستظل أي عملية سياسية ناقصة، فالحوار الوطني تحت سقف الدولة الصومالية مدخل سياسي ضروري لسد أي ثغراتٍ قد تُستغل للتشكيك في صدقية خطوات الحكومة الفيدرالية. وتتطلب هذه الخطوة تجرّداً وتضحية كبيرة من جميع الأطراف الفاعلة في الساحة الصومالية، مع ضمان عدم تدخّل أي طرف خارجي يدعم طرفاً على حساب آخر، لتبقى القضية الصومالية شأناً داخليّاً يحلّه الصوماليون بأنفسهم بعيداً عن أي وصاية إقليمية، وعلى الأطراف الخارجية احترام هذا التوجه نحو استعادة الدولة الصومالية وعمليتها السياسية.
بدون هذا المدخل، ستظل أي عملية سياسية منقوصة، وستبقى المخاطر والتحدّيات تعترض المسار الديمقراطي، في غياب حوار وطني شامل، ما يجعل العملية عرضة للفشل في وضع أمني بالغ الخطورة والتعقيد. بعد 25 عاماً من مؤتمر عرتة، حان الوقت لتداعي العقل السياسي الصومالي لاتخاذ خطواتٍ جادّة لإخراج الصومال إلى برّ الأمان، عبر حوار وطني شامل يسبق أي شكل من الديمقراطية الانتخابية.
الحوار الوطني تحت سقف الدولة الصومالية مدخل سياسي ضروري لسد أي ثغراتٍ قد تُستغل للتشكيك في صدقية خطوات الحكومة الفيدرالية
تتفق معظم الأطراف الصومالية الفاعلة على أهمية هذا المدخل لحل الأزمة، وتؤكّد أن الحل في تهيئة الساحة السياسية لاستيعاب كل القوى السياسية، مع تجاوز فكرة “4.5” أو ما تُسمى “ديمقراطية الخيمة”، التي جمّدت العقل والفعل الصوماليَين عقدَين ونصف العقد. كانت هذه الفترة الطويلة كفيلة بتحقيق تقدم كبير لو تجاوزت عقدة المُحاصصة القبلية. ومع ذلك، لا تزال أمام الصوماليين فرصة ذهبية للخروج من هذا المأزق القبلي الذي أبقى الصومال أسيرة مؤتمر عرتة.
يرى بعضهم اليوم صعوبة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في غياب توافق وطني بين السلطة والمعارضة، إلى جانب تحفظات المجتمع الدولي وكل الأطراف الصومالية. قد يؤدّي الإسراع في هذه العملية إلى تعقيد الأمور بدلاً من حلها. لذا؛ يجب عدم حرق مراحل التحوّل الديمقراطي بتحويل العملية إلى مجرد استهلاك إعلامي أو مساومات سياسية، ولا تتحقّق مثل هذه القضايا إلا من خلال توافقات وطنية حقيقية تضع مصلحة الوطن فوق أي مصلحة جهوية أو شخصية.
يدرك الجميع اليوم حيوية المجتمع الصومالي وطاقاته الشابة المؤهلة والجاهزة للعمل والإنجاز. وقد أثبتت هذه الطاقات كفاءتها في الدول وزراء وتجاراً وعمّالاً وأكاديميين. ولا تقلّ هذه الكوادر أهمية عن الموارد الطبيعية التي تكتنز بها الجغرافية الصومالية. تنتظر هذه الطاقات قيادة وطنية حقيقية تستثمر فيها للنهوض بالصومال ووضعه في مصافّ الدول الوازنة ، التي ربما لا تمتلك ربع هذه الإمكانات البشرية والطبيعية كالصومال.
ختامًاً، ليست الديمقراطية غريبة عن الصوماليين، فهم أصحاب أول تجربة ديمقراطية في العالم الثالث، التي دشّنها الزعيم آدم عبد الله عثمان في منتصف الستينيات، لولا إجهاض تلك التجربة بانقلاب سياد بري، لكان الصومال اليوم رائداً للديمقراطية في العالم الثالث. لذا؛ يجب إعادة الاعتبار لهذه التجربة والبناء عليها بتخليق تجربة ديمقراطية توافقية تنبثق من خصوصيات المجتمع الصومالي وثقافته، فالديمقراطية ليست نموذجاً واحداً مقدّساً، بل يمكن لكل مجتمع صياغة تجربته الخاصة، هذا ما على النخبة الصومالية إدراكه، خاصة في ظل المخاطر الأمنية للجماعات الإرهابية التي تتغذّى على فشل النخب السياسية في تقديم نموذج سياسي عادل وملهم، يستجيب لتطلعات المجتمع وأحلام أفراده وآمالهم بدولة الحرية والكرامة والسلام والاستقرار.
المصدر: العربي الجديد