إغلاق قناة الحرّة… لماذا الأسف؟

محمود الريماوي

في أثناء الإعداد لهذا المقال، أطل صاحبه، بحكم العادة، على موقع قناة الحرّة الإلكتروني، وقد مضت نحو خمسة أسابيع على قرار الرئيس ألأميركي، دونالد ترامب، وقف تمويل المؤسّسات الإعلامية التابعة للوكالة الأميركية للإعلام الدولي، والتي تخاطب جمهوراً غير أميركي بـ49 لغة بينها العربية، من هذه المؤسسات قناة “الحرّة” وموقعها و”صوت أميركا”. ما زال موقع القناة يعمل، ولكن بطاقة بشرية رمزية، بعد أن جرى تسريح النسبة الكبرى من المتعاقدين ونسبة كبيرة من الموظفين الدائمين أو منحهم إجازات. ومع أن ترامب لم يكن بعيداً عن الحضور الإعلامي التلفزي خاصة، إلا أنه يضيق بالتعدّدية الإعلامية، وبمن يراهم أعداء في هذه المهنة التي ظلت عقوداً مزدهرة في الولايات المتحدة، وموضع فخر لصانعي القرارات، بمن فيهم الجمهوريون. وقد تغيّر الأمر مع بدء الولاية الثانية لترامب بصورة دراماتيكية، إلى درجة أن الرئيس شمل بقراراته الوكالة الأميركية للإعلام الدولي التي تخاطب جمهورا في دول “معادية”، أبرزها روسيا والصين وإيران. ورسالة ترامب في هذا الشأن أنه لا حاجة لحرب إعلامية أو نفسية يتم إنفاق أموال فيها، وبغير عائد مالي يُذكر، خلافاً لحرب الرسوم الجمركية التي ستحقق، وفق ترامب، أموالاً طائلة للخزينة العامة، ولا حاجة كذلك للقوة الناعمة، فالتهديد بالقوة الخشنة يحقق عائداً أفضل. هذا علاوة على أن المواطن الأميركي لا يتابع وسائل الإعلام تلك، وقد لا تعنيه.

قبل ذلك، قرّر ترامب وقف تمويل صندوق التكنولوجيا المفتوحة، والذي أنشئ في العام 2012 لدعم أدوات تتيح اختراق جدران الحماية الرقمية وكسر الحظر على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصّاته. وتندرج القرارات المتعلقة بالإعلام ضمن سياسةٍ أوسع شملت تقليص أنشطة وزارة الخارجية بإغلاق بعثات في أفريقيا وإلغاء أقسام في الوزارة تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان واللاجئين والتغيرات المناخية، وكذلك إلغاء وزارة التعليم وإلغاء وكالة التنمية الدولية بحلول يوليو/ تموز المقبل.

يستذكر المرء في هذه المناسبة أن قرار إنشاء قناة الحرّة في فبراير/ شباط 2004 جاء في سياق سياسي يتعلق بالحملة العسكرية الأميركية على العراق التي قادها الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، وضمن حالة ازدهار إعلامي في المنطقة العربية، كان من أبرزه النفوذ الواسع لقناة الجزيرة وقنوات عربية أخرى آنذاك. ولم تكن “الحرّة” بغير جمهور يتابعها، لكنها لم تشكل منافسا جدّياً يأخذ من تأثير قناتي الجزيرة وأبو ظبي آنذاك. في وقت بدأت تضعف فيه وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة. ولعل كثيرين، وكاتب هذه السطور بينهم، كانوا يسعون إلى استكشاف التوجّهات الأميركية في المنطقة العربية من خلال هذه القناة التي رفعت شعار “الحقيقة أولاً”. أما إذاعة صوت أميركا وتالياً إذاعة سوا فليس معلوما مدى الإقبال على متابعتهما، غير أنهما لم تشكلا منافساً أو مصدرا موثوقاً بصورة كافية، مقارنة بالقسم العربي لإذاعة لندن قبل إغلاقه، ولا لراديو مونت كارلو في تلك الحقبة. وفي التقدير أن برامج المنوعات الموسيقية والغنائية في تلك الإذاعة (سوا) كانت تحظى لدى شريحة الشبّان بنسبة استماع أعلى من الأخبار والتقارير السياسية، مع الإشارة أيضا إلى أن هذه الإذاعة إلى جانب المحطة التلفزيونية قد أسهمتا في حل ضائقة العاملين في قطاع الإعلام بعد تدهور مكانة الصحافة التقليدية، ممن وجدوا فرص عمل أو تعاقدات بالقطعة لهم في بلدان عدة في مشرق العالم العربي ومغربه.

لم يلحظ ضيف في موقع قناة الحرّة خبير في المتابعة الإعلامية الدقيقة، ولا مضيفه، أن ثمّة حرباً مُشينة وقعت وما زالت في مكان يسمّى قطاع غزّة

يجدُر الاعتراف في هذه المناسبة بأن قرار الإغلاق التدريجي (ضمن أمد قصير) يثير لدى المرء مشاعر متضاربة، إذ إن توقف أية وسيلة إعلامية يثير شعوراً بالأسف لدى العاملين في هذه المهنة، ولدى من تشكل متابعة وسائل الإعلام المختلفة جزءاً أساسياً من برنامجهم اليومي وطقوس حياتهم، فضلا عن أن تعدّد مكونات المنظومة الإعلامية يفسح مجالاً للتنوّع واستقاء الأخبار والتقارير والتحليلات من مصادر شتى. وقد عرف العقدان الماضيان ظاهرة توقف وسائل إعلام عديدة في العالم العربي، لم تملأه وسائل التواصل الجديدة التي لا تقاليد ولا معايير تضبط بثّها الأخبار والصور والفيديوهات، إلا تلك الخاصة بمن يبث تلك المواد، وبما يتعدّى ذلك، دأبت المؤسسات الإعلامية الموجهة إلى العالم العربي على التبشير بقيم أميركية في مجالات الحرية الفردية بأكثر مما هي قيم كونية، وكأن الغاية هي أمركة الجمهور قبل الإضاءة على مشكلاته الفعلية.

في الإطلالة التي أُشير إليها على موقع الحرّة، في وضعه الشاحب الجديد، تم بث لقاء ضمن برنامج “داخل واشنطن” مع رئيس “صوت أميركا”، مايكل أبراموفيتز، وهو صحافي متمرّس ومخضرم ورئيس سابق لمنظمة فريدوم هاوس. جرى التطرّق، في اللقاء الذي أجراه روبرت ساتلوف، لمسيرة الضيف المهنية، ورؤيته الدور الأميركي في العالم، قائلا إن الولايات المتحدة تلعب دوراً قيادياً، لكنها تخظئ، في بعض الأحيان، حين تقلص وجودها وتترك فراغاً تملأه أطراف أخرى. وتمّت الإشارة إلى انقطاع قصير للضيف عن مهنة الصحافة، اذ عمل في لجنة تثقيفية تُدعى لجنة الضمير وتتبع لمتحف الهولوكست، وقد أفاد بأنه تأثّر بتلك التجربة، إذ أصبح خطر الإبادة الجماعية يشكّل هاجسا له، مع إدراكه تقاعس العالم وعجزه وافتقاده الرغبة الكافية في منع الإبادات. وقد جرى توجيه عدة أسئلة للضيف حول هذه المسألة، ورد ّعليها مستشهداً بأمثلة من رواندا وكمبوديا وسورية وجنوب السودان، قافزا عن البلقان. ولم يلحظ الضيف الخبير في المتابعة الإعلامية الدقيقة، ولا مضيفه، أن ثمة حرباً مُشينة على هذه الشاكلة وقعت وما زالت في مكان يسمّى قطاع غزّة. ربما لأنه يعتقد، والله أعلم، أن ثمّة إبادة فردية فقط لعشرات آلاف من الأطفال والنساء هناك معزّزة بقطع المياه ومنع المساعدات الغذائية والطبية الأساسية. بهذه الطريقة في التستّر والتمويه والتعتيم والتعامي على حربٍ وحشية، سعى رئيس صوت أميركا إلى البرهنة على التزامه الراسخ بحرية الإعلام في بلاده واعتبارها مرآة للحقيقة.

القيم الأميركية قابلة للتطويع والتحوير على أيدي صانعي القرار، كما من خلال أداء منابر إعلامية في بلاد العم سام

في تلك الأمسية التي تتلبّس فيها المرء مشاعر تشييع منابر إعلامية، كانت منابر أخرى تبث خبر مقتل الصحافي الشاب سعيد أمين أبو حسنين في مدينة دير البلح وسط القطاع نتيجة قصف إسرائيلي، أدّى أيضاً إلى مقتل زوجة الصحافي أسماء وطفلته سارة. ولم يحدث في تاريخ الصراعات أن سقط هذا العدد من الصحافيين، والذي يفوق 210 صحافيين، وباستهدافٍ مُتعمّدٍ لهم. وبهذا يثبت الاحتلال الإسرائيلي أنه الأشد عداء والأكثر توحّشا في استهدافه الدائم رسل الحقيقة مع عائلاتهم. من يمثلون القيم الأميركية، كما تبشّر بها قناة الحرّة وإذاعة صوت أميركا، يمرّون مروراً عابراً على هذه الجرائم الفظيعة بحق حرية الصحافة وحماية الصحافيين، ويتفانون في إغفال ذكر الاحتلال أو إسرائيل في سياق هذه الأخبار إنْ بثوها، كما أن حرمان الصحافيين الأجانب من دخول غزّة ومواكبة ما يجري فيها لم يشغل قناة الحرّة وأخواتها.

لسبب كهذا، تنتاب المرء مشاعر متضاربة تجاه إغلاق هذه المنابر، فمن جهةٍ هناك أسف على ما يحدُث، وهناك من جهة ثانية الشعور بأن الحقيقة (ومعها الحقّ بالحياة) كانتا بما يتعلق بالحرب على أهل غزّة هما الضحية أولاً، على أيدي جو بايدن ودونالد ترامب، ثم من خلال أداء موسّسات إعلامية تتلقى تمويلا حكومياً.

ومن المفارقات في ختام هذا العرض القصير، أن قناة الحرّة واظبت على التحيّز لترامب في حملتيه الانتخابيتين، وفاءً منها، كما يبدو للحزب الجمهوري، الذي نشأت القناة في عهده قبل 21 عاماً، إلا أن هذا لم يمنع ترامب من شطبها مع غيرها، من غير أن يرمش له جفن، فالقيم الأميركية قابلة للتطويع والتحوير على أيدي صانعي القرار، كما من خلال أداء منابر إعلامية في بلاد العم سام.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى