العدالة الانتقالية إلى متى؟

جمال الشوفي

لطالما كان سؤال اليوم التالي سؤالاً سورياً نظرياً محمولاً على أبعاد متعددة سياسية وقانونية واقتصادية تصل لدرجة الأبعاد النفسية والاجتماعية والبنيوية. سؤال اليوم التالي مثل إشكالية سوريّة نظرية قبل سقوط النظام تنفتح على توجهات عديدة لدرجة التباين الأيديولوجي الحاد، أما وقد بات السؤال اليوم واقع قائم يرهق كاهل السوريين بكل تعقيداته وصعوباته ومتطلباته الإجرائية والإدارية، فأجوبته الملحة يفترض أن تكون هاجساً لحظياً للعمل عليها تحقيقاً للعدالة وإنصافاً للقهر السوري الذي دام 14 عاماً، وقبلها لعقود من حكم أشد أنواع الدكتاتورية في هذا العصر.

السوريون لليوم، ورغم ضبط دقات قلوبهم على الساعة 6:18 صباح يوم 8/12/2024 يعدهم بانفراجات واسعة تنصف مظالمهم وتشفي أرواحهم العطشى للحرية والحياة الكريمة وتواسي أوجاع قلوب الأمهات السوريات المفجوعة على فلذات كبدها، لكن، وهذه الـ”لكن” مكررة ألفاً ومرة، هذه المرة نقدية محمولة على حسرة عميقة لم تزل عالقة في الحناجر، لكن:

  • لم يزل ملايين السوريين يعيشون في خيام النزوح، وقلما يتم تسليط الضوء على معاشهم وحياتهم وأحلامهم بالعودة لبيوتهم وديارهم. فإن كانت المعطيات الاقتصادية تشير إلى ضرورة بدء الإعمار لتجاوز صعوباته وأمواله الطائلة غير المتاحة لليوم، لكن حتى أجور النقل للعودة لا يستطيعون تأمينها، وحياتهم لليوم حياة ضنك وعوز، ونادراً ما يتم إفراد المواد الإعلامية حول أوضاعهم المأساوية، وهذه حسرة كبرى.
  • رغم الإعلان عن إزالة مذكرات منع السفر والملاحقات الأمنية والحجز على الأملاك والفصل التعسفي التي طالت غالبية السوريين المصنفين معارضة لدى النظام السابق، لكن لليوم لم تزل مثل هذه المذكرات غير معممة وموجودة في صفيحة معظمنا –فقد أثبتت وقائع عدة ذلك سواء من السوريين الذين زاروا سوريا أو ممن بقي بالداخل طوال هذه الفترة وشخصياً أنا منهم- ما يؤدي لانتقاص حقنا كسوريين بإزالة الضرر الذي ألحقه النظام البائد بحقنا، واستمرار تعطيل شؤون حياتنا العملية والحياتية والمادية أيضاً، في حين يتجول المحسوبون على النظام براحتهم لكونهم بلا ملفات أمنية سابقة، وهذه مقارنة فاقعة!
  • رغم إقرار وطلب السوريين باختلاف تصوراتهم السياسية على البدء بتطبيق العدالة الانتقالية وفق أسس قضائية وإدارية محددة تفيد بضرورة محاسبة رموز النظام الساقط أمنياً وسياسياً وعسكرياً ممن ارتكبوا شتى أنواع المظالم والمجازر بحقنا كسوريين تصل لجرائم الحرب والإبادة الواسعة، لكن لليوم لم تطبق هذه الإجراءات بعد. وأقلها الإجراءات الإدارية الممكنة سواء بإصدار القرارات الإدارية المتعقلة بجبر ضرر المفصولين من عملهم تعسفياً، وتوثيق دمار البيوت والمنازل، أو إصدار مذكرات الاعتقال ومنع السفر بحق مرتكبي الجرائم تلك. فإن كان تشكيل هيئة العدالة الانتقالية يتطلب أن تكون سيادية مستقلة يقرها مجلس الشعب وهذا ما لم ينجز بعد لليوم، لكن الإجراءات الإدارية ممكنة ومتاحة، خاصة وأننا الذين تعرضنا لانتهاك حقوقنا من قبل النظام البائد نقف بمقارنة مريرة أمام عدم إنصافنا لليوم إدارياً وقانونياً وأمنياً، في حين نرى أن الفئة الأخرى يتاح لها مساحات واسعة من الحركة والسفر وغيره من دون محاسبة!
  • رغم أن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني لم تكن على قدر طموح السوريين عامة، لكنها مثلت بالنسبة لنا، ممن ندرك ضرورة البدء بالعمل في بناء مؤسسات الدولة، خطوة هامة في بناء الدولة توجت بالإعلان الدستوري والحكومة الانتقالية، بغض النظر عن نقد مضامينها. فإن كانت الشؤون الاقتصادية والخدمية قيد البدء بها ومصابة بعطالة العقوبات الدولية، لكن علاج التشتت السوري والتحريض الطائفي وعدم التعامل معه قانونياً لليوم يضع مؤسسات الدولة أمام حالة شعبية يسودها التململ وعدم الرضا عن آليات عملها، خاصة في ملفات العدالة الانتقالية والقرارات الإدارية المفترضة للإنصاف والعدالة والبدء بعلاج مشكلات النازحين السوريين.

في مقالات سابقة تناولنا الفرق بين الحكم بالقانون وسيادة القانون، إذ إنها ليست فروقا لغوية وحسب، بل فروق جوهرية تصل إلى حد التناقض البّين. فسيادة القانون هو المصطلح المرافق لتحقيق الدولة استقرارها وفصل سلطاتها السياسية والتنفيذية والقضائية، وهو الخلاصة التعاقدية دستورياً ونصياً لتحقيق الإنصاف والعدالة ومنع الأفراد والمؤسسات والجهات الرسمية الحكومية وغير الحكومية من الاعتداء على حريات الآخرين جبراً أو إكراهاً. سيادة القانون هي التطبيق العصري والحديث لمقولة الفاروق عمر بن الخطاب “العدل سيد بين الناس”، في حين الحكم بالقانون هو تمثيل واضح لقدرة السلطة على سن القوانين والتشريعات لتمتين سطوتها، وهو ما كان يمارسه النظام السابق كمخاتلة ومكر سياسي للترويج على أنها دولة عصرية يحكمها القانون سيادياً، في حين أن حقيقة الواقع ومجرياته أثبتت زيف ادعاءاته. وبالضرورة أليس الأولى على سلطة وحكومة التحرير اليوم أن تبادر بتحقيق سيادة القانون ونفي الأحكام التي نفذها النظام السابق بطرق إجرائية سريعة؟ وهنا يتوجب التنبيه على أنه في السنوات الأخيرة درج نظام الأسد على الترويج للحكم بالقانون الوضعي والمدني وادعاء عدم وجود معارضين له، فعمل على تحويل ملفات السوريين السياسية والأمنية لملفات جنائية وملفات إرهاب عامة، وهذه يمكن التحقق منها بسهولة خاصة وأنها طالت السوريين المعارضين لحكمه بطرق عدة، إذ اكتفى بالتعامل مع بطانته بعقوباته المالية والطرد والاستبدال. في حين أن مطلب سيادة القانون اليوم يتطلب:

  • البدء بتحقيق العدالة الانتقالية قضائياً وإدارياً وذلك للحد من العمل بالهوى الشخصي وممارسة الأعمال الفردية الانتقامية والانتقائية المتزايدة والضارة بجسد الحكومة والدولة الناشئة.
  • إزالة الظلم الذي تعرض له السوريين من الأحكام المسماة قانونية بظل النظام السابق، سواء كانت منع سفر أو الفصل التعسفي من العمل أو حجز الأملاك، إذ يتوجب رفع جميع ملفات وبلاغات الأجهزة الأمنية السابقة بحقنا كسوريين والموقعة قبل 8/12/2024 مباشرة ومن دون تأخير.
  • تفعيل الضابطة العدلية ودور القضاء المستقل وإصدار مذكرات الاعتقال ومنع السفر والحجز الاحتياطي بقادة النظام السابق الأمنية والسياسية والمشتبه بتلوث أيديهم بالفساد المالي والإداري والعمل على تحويلهم للقضاء العادل.
  • ضبط الخطاب الإعلامي السوري ومراقبته وإصدار قانون تجريم التحريض الطائفي.
  • التوجه ناحية خيام النازحين السوريين وتسليط الضوء على معاناتهم اليومية ومحاولة تذليل صعابها وتحدياتها.

العدالة الانتقالية خطوة هامة ومحورية للوصول لدولة سيادة القانون وهذه تختلف كلية عن الحكم بالقانون، الذي يحول القانون إلى أداة ذات مصلحة معينة في خدمة المتنفذين والمنتفعين وحسب. وهذا ما يجب أن يُسمع بحرص ومسؤولية من الحقوقيين والقانونيين وناشطي المجتمع المدني الباحثين عن موقع وجداني لفهم للقانون وسيادته وتطبيقه، وليس فقط، بل بوابة واسعة لتمتين جسور الثقة وتهيئة البيئة السورية الآمنة للعمل التشاركي والتعاوني ونبذ التطرف والشعور بالاحتقان وعدم الرضا ومصدرها البيّن عدم الإنصاف وتحقق العدالة المرجوة. فالبنية السياسية والهوية الوطنية هي حوار سوري منفتح يتناول شتى قضايانا الراهنة والمستقبلية، وهذه تحتمل شتى أنواع الاختلاف بطبيعتها لكنها محكومة ببوصلة الوطنية السورية وما يستحقه السوريين وتضحياتهم الجسام، في حين أن تحسين الوضع الاقتصادي وارتباطه برفع العقوبات مرتبط دولياً بمدى تحقيق الاستقرار والعدالة في الوضع السوري وأولى خطواتها البدء بالعدالة الانتقالية اليوم قبل الغد.

 

المصدر:  تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى