
لم تعمّر فترة التهدئة بين باريس والجزائر طويلاً، فبعدما كانت مؤشّرات توحي بقرب انتهاء الأزمة الدبلوماسية بينهما، خاصّة بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الجزائر في 6 إبريل/ نيسان الجاري، ها هي العلاقات ترجع خطوةً إلى الوراء مع اندلاع أزمة أخرى بعد إعلان الجزائر الاثنين الماضي (14 إبريل) طرد 12 موظّفاً في السفارة الفرنسية طالبة منهم مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة، متّخذة هذا القرار احتجاجا على اعتقال ثلاثة من مواطنيها، أحدهم موظّف في القنصلية الجزائرية في مدينة كريتاي جنوب باريس، ما دفع فرنسا إلى الردّ بلسان جان نويل بارو نفسه، الذي زار الجزائر قبل أيام قلائل، قائلاً إن بلاده مستعدّة لاتخاذ إجراءات انتقامية فورية.
قبل الحديث عن دواعي انفراط عقد المصالحة بين البلدَين، حتى قبل بدئها، ما يُظهِر عمق الأزمة وتعقيداتها، ويبدي للعلن زوايا خفيةً في علاقة البلدَين، بدأت تنكشّف تدريجياً مع وصول جيل جديد من الحكّام في فرنسا لم يعش فترة الارتباط العاطفي والوجداني بين حكام البلدَين في فترة الاستعمار وما بعده. قبل ذلك، لا بدّ من الرجوع إلى أطوار القضية التي تكشف مدى التغيير الذي حصل في الباراديغم (النموذج) السياسي الذي يحكم علاقة البلدَين، الذي كان مبنياً على ركيزة أساسية مفادها مصلحة فرنسا مقابل مصلحة عسكر الجزائر، بما يضمن ولاء هؤلاء سرّاً.
أعلنت النيابة الوطنية الفرنسية لمكافحة الإرهاب الجمعة الماضي (11 إبريل) اعتقال ثلاثة جزائريين بتهمة “الاختطاف والاحتجاز التعسّفي في إطار مشروع إرهابي”، في قضية ترجع أحداثها إلى إبريل/ نيسان من العام الماضي (2024)، بعد اتهامهم (وفتح تحقيق معهم) في قضية إجرامية تتعلّق بالتعدّي على معارض ومؤثّر جزائري يتابعه عند كتابة هذه السطور، أكثر من 1.1 مليون متابع في “تيك توك”، و242 ألفَ متابع في “إكس”، و212 ألفَ متابع في “إنستغرام”، وتجذب فيديوهاته المنتقدة للنظام الجزائري عشرات آلاف من المشاهدات كلّ يوم. وسلاح وسائل التواصل الاجتماعي أصبح يخيف الأنظمة العربية منذ “الربيع العربي”، ويسعى بعضهم إلى إخراسه بكلّ الوسائل المتاحة، والغاية تبرّر الوسيلة.
سلاح وسائل التواصل الاجتماعي أصبح يخيف الأنظمة العربية منذ “الربيع العربي”، ويسعى بعضهم لإخراسه بكلّ الوسائل المتاحة، والغاية تبرّر الوسيلة
يُذكر أن الخارجية الحزائرية استدعت، قبل إعلان طرد الدبلوماسيين، السفير الفرنسي في الجزائر، ستيفان روماتيه، قائلةً، في بيانها المنشور في منصّة إكس، إن اعتقال الموظّف القنصلي من دون إشعار عبر القنوات الدبلوماسية، “انتهاك صارخ للحصانة الدبلوماسية وللممارسات والأعراف الدبلوماسية الجاري بها العمل بين البلدَين”، معتبرةً اعتقال موظّفها “عملاً تعسّفياً” لا يرتكز على حجج دامغة، بل على “اتهامات” واهية في حقّهم بالمشاركة في اختطاف “مزعوم” للمعارض الجزائري أمير بوخرص، الذي تصفه بـ”المارق” (الوصف الذي يشي بصحّة التهمة عوض نفيها)، متّهمةً جهاتٍ فرنسيةً بعرقلة “إعادة بعث وتنشيط العلاقات الثنائية” المتّفق عليها بين رئيسَي البلدَين.
بين المزايدات السياسية والشعبوية من الجانبَين، وتسلسل أحداث هذه الأزمة الجديدة المفاجئة، يمكن أن نقول إن مردّ هذه التجاذبات يرجع إلى عدّة أسباب. أولاً، شخصيتي قائدَي البلدَين ونرجستيهما الواضحة الفاضحة، فالرئيس ماكرون الذي طالما مدّ كلتي يديه في اتجاه الجزائر (راجع للكاتب: “أرجوحة باريس بين الجزائر والرباط”، “العربي الجديد”، 28/8/2022)، وجد قبالته الثنائي الحاكم في الجزائر، الرئيس عبد المجيد تبّون والجنرال السعيد شنقريحة، اللذين أكثرا من المزايدات فخسرا كلّ شيء، ودفعا، من حيث لم يشعرا، ماكرون في اتجاه المغرب، فازدادا حنقاً وغضباً، إلى أن جاءت تصريحات تبّون أواخر الشهر الماضي (مارس/ آذار)، التي خفّف فيها لهجته تجاه فرنسا، معطياً عدّة إشارات عن رغبته في عودة العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى سابق عهدها، موضّحاً أن بلاده كانت تعلم أن فرنسا تؤيّد المغرب في ملفّ الصحراء المغربية، وأن المشكل ليس في التأييد، ولكن في إعلانه صراحةً أمام الملأ من دولة عضو دائم في مجلس الأمن. وهكذا، مهّد الطريق للتهدئة بعد أن اعترف ضمناً أن سبب التصعيد لم يعد ذا مغزى.
تغيير الباراديغم السياسي لعلاقة فرنسا بالجزائر، المبني على مصلحة فرنسا مقابل مصلحة عسكر الجزائر لضمان ولائهم سرّاً
يرجع المعطى الثاني إلى اختلافات التقدير داخل البلدَين، ففي الوقت الذي يريد ماكرون ووزير خارجيته تحسين علاقة البلدَين، يجدان نفسيهما مكبّلَين بالمنظومة الحزبية التي تحيط بهما، وبالواقع السياسي الداخلي الهشّ، والمشتّت بين أقطاب ثلاثة، أولهما اليمين المتطرّف ومواقفه معروفة لأسباب تاريخية، وأخرى متعلّقة بالهجرة ومخلّفاتها، وثانيهما اليمين التقليدي بأطيافه كلّها (مع الوسط)، وهو في أغلبه حانق، لئلا نقول معادٍ للطرح الجزائري لأسباب انتخابية، ليبقى قطب اليسار، وهو منقسم في مواقفه. هذا في العموم، إلا بعض الأصوات النشاز هنا وهناك. وإذا علمنا قوّة الإعلام اليميني المحافظ والمتشدّد، الذي يصنع الرأي العام ويُخضع الطبقة السياسية، فلا عجب. أمّا في الجزائر، فالمصالح الشخصية للعسكر رهنت مصالح الدولة لمصالحها، ومن ثمّة يُلاحظ التذبذب في المواقف، والهوّة العميقة بين الخطاب السياسي الرنّان (ليس في هذه القضية فحسب) والفعل السياسي الباهت، خاصّة مع محيط إقليمي تفنّن قادةُ الجزائر في إيجاد العداوة معه غرباً وجنوباً، وهذا هو المعطى الثالث، إذ دفع تراجع نفوذ البلدَين كليهما في منطقة الساحل والصحراء فرنسا إلى إيجاد بديل يكون وسيطاً بينها وبين دول المنطقة، وهذا ما استطاع المغرب تحقيقه. أمّا المعطى الرابع والأخير، فإن تراجع أثمان الغاز والبترول قلّل من القيمة السوقية لنفوذ الجزائر في الساحة الجيوستراتيجية، بل لم تعد ذات جدوى أحياناً، وحان الوقت لسبلٍ جديدة تسمح بالوئام داخلياً وخارجياً.
المصدر: العربي الجديد
كان انفراط عقد المصالحة بين الجزائر وفرنسا، حتى قبل بدئها، يُظهِر عمق الأزمة بينهما وتعقيداتها، زوايا خفيةً بالعلاقة بين البلدَين، بدأت تنكشّف تدريجياً مع وصول جيل جديد من الحكّام في فرنسا لم يعش فترة الاستعمار وما بعده من ارتباط عاطفي ووجداني، مصالح العسكر بالجزائر يتعارض مع السياسيين الفرنسيين الجدد.