
مؤسفٌ أنْ نشهد هذه المأساةَ المستمرَّة في قطاع غزّة، من دون أنْ نزيد وعينا على المستويين الفكري والسياسي، وحتى على المستوى الأخلاقي. هذه الزيادة لا تقتصر على اكتساب فِكَرٍ ومعلوماتٍ جديدة، ولكن تشمل أيضاً تعديلاتٍ تأتي على مجمل نظرتنا إلى أنفسنا، وإلى العالم الذي نعيش فيه. ولا نبالغ إنْ قلنا إن أوّل ما يلزمنا لتحصيل هذا المطلب هو الصدق مع الذات، بالتوازي مع المرونة الفكرية اللازمة. هذا الصدقُ يتضمَّن (حتى يكون فاعلاً) الجرأة، جرأة الاعتراف متلازمةً مع القدرة التفكيرية في الإتيان على مناطقَ مركونةٍ في الوعي، لأنها في حُسباننا ضمن مقوّمات بنائنا الشخصي، التي لطالما حدّدتْ ميولنا، ومواقفنا.
ولعلّ أظهر العبر التي توصلها إلينا الكارثة التي حلَّت بغزّة معنى أنْ نكون ضعافاً مكشوفين في عالم لا يرحم الضعفاء. وهذا الضعف، ليس بالطبع خاصّاً بغزّة، حيث الفارق الضخم بين قوّة الطرفَين، حركات المقاومة بما استطاعت بناءه في ظروف غير عادية، بل في ظروف معادية، ودولة الاحتلال المدعومة أميركياً دعماً مطلقاً، وإنما حالة الضعف الشاملة عربياً وإسلامياً، حين لم ينجح ما يسمَّيان بالعالمَين العربي والإسلامي، والمفترض أنهما مضطران إلى الإقرار بترابُطهما أو تقارُبهما، حتى إنهما يعاملان غربياً وعالمياً تصوُّراً كليّاً يستند إلى مشتركات جوهرية، لا تلغيها الفروقات والخصوصيات.
العالمان العربي والإسلامي، سواءٌ أَشاء أبناؤهما ومكوُّناتهما الاتصالَ بفلسطين، أو لم يشاؤوا، محسوبان ضمن امتداد هذه القضية، وهو امتداد محتمل (على الأقلّ) وإنْ لم يكن دائماً مفعَّلاً، ولذلك هو المسرح الأوسع للتعاطي دوليّاً وأميركياً مع تسوية قضية فلسطين، أو تصفيتها. لم يستطع هذا الامتدادُ أن يجسّد قوةً قادرةً على الفعل. ظهر ذلك طوال فترة الحرب الإبادية على غزّة. كلُّ ما فعلته بعضُ الدول العربية المحيطة أو القريبة من فلسطين هو السعي الجدّي والدؤوب (ما دام ممكناً) لتجنيب نفسها مخاطر وتداعيات هذه الحرب الاستئصالية، كما في مثال التهجير، فحتّى اللحظة، ترفض مصر تهجير الغزّيين إليها، لكنّها لا تفعل ما يكفي (أو ما تستطيع) للحدّ من نطاق القتل والتجويع والتعطيش، وحرمان القطاع من أساسيات الحياة من بيوت ومستشفيات، وسائر المرافق من مخابز ومدارس وغيرها.
كلُّ ما فعلته بعضُ الدول العربية المحيطة أو القريبة من فلسطين هو السعي الجدّي والدؤوب (ما دام ممكناً) لتجنيب نفسها مخاطر وتداعيات هذه الحرب الاستئصالية
لقد مُنحِت دول العالم العربي عقوداً، من دون أن تنجح في عملية التنمية الضرورية لتأهيلها لامتلاك الإرادة السياسية، ولترقية شعوبها على الصعيد الاجتماعي، لممارسة دورها الطبيعي في المشاركة السياسية على المستوى المحلِّي، ثم على المستويات الخارجية. وكانت تجربة “الربيع العربي” ناطقةً برسوخ تلك الحالة البنيوية المتّسمة بالعطالة، وعلامةً على استمرار الفصل بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة، حتى الوصول إلى درجة عزل تلك القوى المجتمعية عن القرارات المصيرية، المندرجة ضمن الأمنَين القومي والاقتصادي، ما يعني تعريض طبقات المجتمع وسائر مكوّناته وأُسره وأفراده إلى التهديد، تهديد أمنهم الشخصي وتهديد أمنهم الغذائي، ما يعني أن الشعوب العربية عليها الغُرْم، وليس لها شيءٌ من الغُنْم.
ومع أن النظم الحاكمة تتحمّل المسؤولية المباشرة عن هذا الانكشاف أمام الصراعات، التي وصلت على المستوى العسكري كما في غزّة ولبنان وسورية إلى اكتساح التواضعات والأعراف السابقة، إلى ما يُسمَّى منطق القوّة، أي أنَّ القوّة هي الحقّ، القوة من دون أيّ ادّعاءات تُذكَر عن العدالة أو الحقوق، كما يتبجَّح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أنه يعمل لإعادة صياغة خريطة المنطقة. مع أن النظم الحاكمة، بما تملكه من استئثار بأوراق القوة ومقدَّرات البلاد (البشرية والمادية)، وبما تصرّ عليه من قطع أيّ صلاتٍ عربيةٍ بينيةٍ تؤهّلها لمواجهة عالَم اتّجه إلى الاتحاد والتقارب، كما دول الاتحاد الأوروبي مثلاً، هي التي تتحمّل المسؤولية المباشرة عن هذا التأخّر البعيد، إلا أن جموعاً ليست هامشيةً من الشعوب العربية، المبتلاة بتداعيات الإخفاق التنموي من فقر وتردٍّ صحّي وخدماتي، أبدتْ هي الأخرى استعداداً ضمنياً للتكيّف المستمرّ مع كلّ تخفيض في شروط العيش، على أمل أنْ تستبقي حياتها ومعاشها، متّكلةً على “نجاح” هذه التقنية فيما مضى، ولعلّ هذا التفكير المُبالِغ في “الواقعية” تفاقم بعد الثورات المضادّة، التي عملت في إجهاض تطلّعات شعوب عربية إلى التغيير، ضمن سياق ثورات الربيع العربي.
وهذا الاتكال على “أنّ ما صلح في الماضي يبقى صالحاً للحاضر”، وفي المستقبل، انسحب إلى النظم العربية الحاكمة، التي ارتضت تجريدها من أيّ قوة ذاتية حقيقية، تدّخرها للتقلّبات الدولية، وهذا ما حصل، على نحو مؤلمٍ ومُحرِج، مع وصول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في فترته الثانية إلى البيت الأبيض، وهو الرئيس المختلف عمّن سبقوه في درجة احتكامه إلى قيم النفعية، والرأسمالية المتهوّرة والمتحرِّرة إلى حدود غير معلومة أو متوقَّعة من القيم الإنسانية، ولو على مستوى الشعارات أو التدابير المُصاحِبة، كالدبلوماسية والقوة الناعمة والمؤسّسات الدولية، القانونية والحقوقية.
بعد الثورات المضادّة، أبدت جموع من الشعوب العربية استعداداً للتكيّف مع كلّ تخفيض في شروط العيش
وترامب، بتقلّباته وتناقضاته المقصودة، غالباً لا يغادر منطق القوة والإملاءات التي لا تراعي حتى مَن يُعدُّون حلفاء أميركا، مأخوذاً بفكرة “أميركا أوّلاً”، و”إعادة أميركا عظيمةً ثانيةً”، وبنزعة انعزالية تدفعه إلى الاستخفاف بالدور العالمي الرسالي لأميركا، من دون التخلّي عن عقلية عقارية استثمارية متعجّلة. فهذه البيئة السياسية الجديدة، التي صنعها ترامب، تترك النظم العربية نفسها في خطر قد يكون وجوديّاً، أو في أفضل الحالات يدفعها إلى مزيد من الانخفاضات تحت وطأة تهديدات سيّد البيت الأبيض، العارف بمواطن ضعفها الشديدة والعميقة؛ لافتقادها إلى الدعم الكافي داخليّاً، ولافتقار غير قليلٍ منها إلى القدرات الدفاعية. خارجيّاً؛ يبتزّها، مالياً، والأخطر في المواقف حين لا يبالي (غالباً) بمخاطر القفزات المفاجئة على الرأي العام في تلك الدول، وقد لا يمنحها الوقتَ الكافي لإعداد شعوبها إجرائياً ونفسياً لمثل تلك التحوّلات المفاجئة، والنيّئة، مثال ذلك تهجير فلسطينيي غزّة (وهو توجّه لا يبدو أنه يفارق أحلام ترامب)، وربّما في المستقبل فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن.
خلاصة المشكلة أن هذه الاستنامة العربية الطويلة عن تحصيل ما أمكن من عوامل القوة تحسّباً لتراجُع الدعم الخارجي، وارتكاناً إلى تعامل معقول، أو عاقل تستبقيه الدولة العظمى، مع دول غير معادية للمصالح الأميركية، حتى صارت تلك النظم العربية الحاكمة إلى فترة شدّ الأعصاب، على إيقاع مزاجية ترامب.
قد يقال إننا لسنا وحدنا من يعاني ويقلق مع إدارة ترامب، ولكنْ، أوّلاً نحن مسؤولون عن اجتراح حلولٍ لحالتنا، بوصفنا المسؤولين عن أنفسنا ومن يدفع الثمن، ولكلّ دولة أخرى أنْ تسلك ما تراه الأنسب لها. وثانياً، من العسير أنْ تجدَ دولةً، أو دولاً من العالمين الأوّل أو الثاني، أو حتى الثالث، سمحت بمثل هذا الانكشاف والتخلّي، كما دولنا. وما غزة، بعد هذا، إلا المؤشّر الصارخ، ضمن سياقٍ عالمي مشابه، يُوجب دفع فاتورة حساب الاطمئنان الزائد إلى نظامٍ دولي معقول، يضبط شروره، بما في وُسع الضعيف أنْ يتحمَّله.
المصدر: العربي الجديد