
يصعُب وصف ما يحدث في غزّة منذ نحو 18 شهراً، أو اختزاله في كلماتٍ أو وصور، لأنه بكل بساطة تجاوز كلَّ ما كان يعدّ غير عادي، أو بعبارة أدق كلَّ الأوصاف التي اعتدنا إطلاقها على جرائم غير عادية تُرتكب بطرق غير عادية، ويرتكبها أشخاصٌ يبدون عاديين أو يعطون الانطباع بأنهم عاديون، مثلنا، بينما هم في الحقيقة غير عاديين وعلى نحوٍ مخيف، إنهم نسخ مستنسخة من شخصية أدولف آيخمان، الضابط النازي الذي كان مكلفاً بالإبادة الجماعية لليهود، والذي حوكم في إسرائيل عام 1961، وغطّت الفيلسوفة الألمانية حنا آرندت محاكمته في تقرير تحول إلى كتاب صدر عام 1963 عنوانه “آيخمان في القدس… تفاهة الشّر”، وساعةَ صدوره، أثار غضب الصهاينة بسبب المفارقة في عنوانه الفرعي، وحرّك ضد كاتبته حملة معادية، خاصة في أميركا وفرنسا، إذ اتُهمت بأنها معادية لليهود رغم أنها يهودية، وبمعاداة السامية، بل وبأنها “نازية” رغم أنها كانت ضحيةً للنازية، لأنّ منتقديها من الصهاينة رأوا في طرحها تقليلاً من شأن جرائم آيخمان، باعتبارها عادية أو يمكن التعامل معها كذلك، وبالتالي وصفُها بالتافهة. لذلك اتُهمت بأنّ هدفها كان التقليل من شأن الشّر في حد ذاته، لكنّ آرندت لم تقصد هذا، على العكس، فقد أصرّت في طرحها على أن الجرائم التي ارتكبها آيخمان كانت استثنائية، وغير مسبوقة. بعبارة أخرى، لا يعني تتفيه الشّر بأيّ حال التقليل منه، وإنما التنبيه إلى خطورته، لأن ما كان يبدو عادياً في نظر آرندت ليس الجرائم في حد ذاتها التي ارتكبها آيخمان، وإنما الطريقة التي ارتُكبت بها تلك الجرائم، وكأنها أشياء عادية اعتادَها مَن يقرّرها ومَن يرتكبها ومن يؤيّدها ومن يشاهدها أو يستمع إلى شهادة آيخمان بخصوصها أمام المحكمة.
لقد تعمّدت آرندت أن تضع لتقريرها عنواناً إشكالياً صدامياً لإثارة الانتباه إلى محتواه، وهو ما نجحت فعلاً في تحقيقه من خلال الجمع بين متناقضين؛ التفاهة التي تعتبر شيئاً اعتيادياً، والشّر الذي يمثل الاستثناءَ والخروج عن عادة البشر وطبيعتهم، فما أعطى تقريرها قوّته هو هذا الجمع بين مصطلحَين متناقضَين ومتعارضَين لإحداث نوعٍ من الصدمة لدى الرأي العام، ودفعه إلى التفكير في الجرائم البشعة المنسوبة لآيخمان. وفي تصوّرها لـ”تفاهة الشر”، تُعرّف آرندت الشّر بأنه ليس تلك النزعة الشيطانية الكامنة في أعماق الإنسان، وإنما في تحوّلها إلى شيء عادي وغرائزي عند الشخص، حين يغيب عندَه الوعي بما يفعله، ويَضعُف عنده الحسّ النقدي إلى درجة يفقد فيها ضبط أفعاله ومشاعره وسلوكه، وبالتالي، يتحوّل إلى وحش تسيطر عليه غرائزه.
يساعدنا استحضار آرندت، وطرحها بشأن العلاقة الجدلية بين الخير والشر، في فهم شخصية الصهيوني العادي السياسي والعسكري والمستوطن الذي يفرح كلّما قتل عدداً أكبر من الفلسطينيين، فهؤلاء كلّهم مثل شخصية آيخمان، كما صوّرتها آرندت، تخلّوا عن قدرتهم على التفكير لصالح العقيدة الصهيونية والأساطير التوراتية وآلتهما الدعائية الجبارة، وفقدوا الصفة الإنسانية التي تميّز بين الخير والشّر، ولم تعد تضبط مشاعرهم وسلوكهم أيّ ضوابط أخلاقية، وهذا بالضبط ما حدث في عهد النازية، فقد أدّى التقليل من شأن الجرائم البشعة التي كانت تُرتكب ضدّ اليهود في أوروبا إلى “الهولوكوست”، الذي أدّى إلى اجتراح مصطلح “الإبادة الجماعية”، لوصف بشاعة الجرائم التي ارتُكبت ولم يسبق أن شهدتها البشرية قبل حدوثها.
نحن اليوم أمام جرائم أكثر بشاعة وغير عادية، لم يعتَدْها السلوك البشري
نحن اليوم أمام جرائم أكثر بشاعة وغير عادية، لم يعتَدْها السلوك البشري، تُرتكب يومياً لزهاء 18 شهراً وعلى الهواء مباشرة يشاهدها العالم، وقد تجاوزت في فظاعتها “الهولوكوست” الإسرائيلي بكل مبالغاته في بعض الروايات الصهيونية، أما الجرائم ضد الفلسطينيين فهي موثقة ومسجلة بالصوت والصورة الحيّة. وبالتالي؛ تصبح حتى أطروحة أرندت متجاوَزة في فهم سلوك المجرمين الإسرائيليين، ساسةً وجنوداً ومجتمعاً، لقد انتقلنا من “تفاهة الشّر” إلى “تفاهة البشر” أنفسهم، وهؤلاء ليسوا الإسرائيليين فحسب، وإنما كلّ الذين يساندونهم عبر العالم، من صهاينة ومطبّعين ومتصهينين، فدرجة التعفّن في الفكر وتبلّد المشاعر، وانعدام الحسّ الأخلاقي عند هؤلاء هو الذي يجعلهم تافهين، أي في درجةٍ أقلّ من البشر، بما أنهم لا يحسّون بآلام وأحزان مَن يعانون من جرائمهم وسلوكهم المرضيّ وتصرّفاتهم السادية، سواءً كانت قرارات أو أفعالاً أو مواقفَ أو أقوالاً وتعليقات وتصريحات.
في 1961، عندما دخلت حنة آرندت إلى المحكمة في القدس، مراسلةً لمجلة النيويوركر، كانت تتوقع رؤية وحش داخل قفص الاتهام، لكنها فوجئت بشخص آخر يعطي انطباعاً مختلفاً تماماً، فكتبت: “المشكلة مع آيخمان على وجه التحديد أنّ هناك عديدين يشبهونه ولم يكونوا منحرفين ولا ساديين، والذين كانوا، وما زالوا، طبيعيين على نحوٍ مخيف”. لقد أرادت الفيلسوفة أن تظهر أن الشّر نادراً ما يكون نتيجة للشّر المتطرّف، بل هو نتيجة لعدم القدرة على التفكير فيه باعتباره شرّاً، وهذا هو الأمر الأكثر رعباً عند هذه الطينة من “البشر التافهين”، ساسةً كانوا أو جنوداً أو مستوطنين أو مطبّعين أو متصهينين، كلّهم يجتمعون في صفة الدرجة صفر للتفاهة التي تفوق تفاهة الشّر كما نظرت إليها آرندت.
المصدر: العربي الجديد