تحوّلات البعد الطائفي في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط

محمد أبو رمان

تشكّل اللحظةُ الراهنة انعطافةً أخرى على مستوى “الإدراك السياسي” الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط، بخاصّة فيما يتعلّق بالمسألة الطائفية. ولعلّ قارئاً سيقول لي مباشرةً: لا توجد سياسة أميركية مع طائفة أو ضدّ أخرى، بل هنالك اعتبارات استراتيجية ومصالح سياسية واقتصادية تحكم توجّهات البيت الأبيض دوماً. … هذا صحيح، لكن المنظور الأميركي لتحقيق هذه المصالح شهد تحوّلات استراتيجية في تعريف العلاقة مع كلّ من السُنّة والشيعة، منذ الثورة الإيرانية في العام 1979.
يعود التحوّل الراهن إلى التفكير الأميركي التقليدي بالنظر إلى الدول العربية السُنّية التقليدية حليفاً وصديقاً للولايات المتحدة، ويتجاوز مرحلةً من الشكّ في هذه العلاقة بدأت منذ 2001، وتحديداً عندما اصطدمت الطائرات التي قادها 19 شخصاً من تنظيم القاعدة (15 من السعودية، وإماراتيان، ومصري ولبناني) ببرجي التجارة العالمية ومبنى البنتاغون (سقطت طائرة رابعة في حقل بولاية بنسلفانيا)، ما دفع مراكز التفكير والتحليل في واشنطن إلى التساؤل عن السرّ في أن تكون غالبيتهم من السعودية، التي تمتّعت بعلاقات جيدة وإيجابية مع الولايات المتحدة عقوداً طويلة، بل إن قائد التنظيم (أسامة بن لادن)، الذي شكّل حينها المصدر الرئيس لتهديد المصالح الاستراتيجية الأميركية وشنّ أكبر هجوم على الولايات المتحدة في تاريخها، سعودي أيضاً.

الصفقة بين الولايات المتحدة والأنظمة الأوتوقراطية العربية قايضت المصالح الأميركية بالأمن والاستقرار في المنطقة على حساب الديمقراطية

بالضرورة، كانت هناك إجابات عديدة، لكنّ الجواب الأكثر حضوراً ونفوذاً في دوائر القرار الأميركية، الذي أدّى إلى تحوّلات في “الإدراك الاستراتيجي” هناك، أنّ السبب باختصار يتمثّل بـ”الصفقة التاريخية” (المجازية) بين الولايات المتحدة وما وُصف بالأدبيات الأميركية بالأنظمة الأوتوقراطية والسلطوية العربية. تلك الصفقة التي قايضت المصالح الأميركية بالأمن والاستقرار، في المنطقة وفي تلك الدول، على حساب الديمقراطية، وهو الأمر الذي أدّى لاحقاً إلى صعود الحركات الإسلامية السُنّية، وتنظيم القاعدة، الذي أعلن في العام 1998 “عولمة الجهاد” عبر تأسيس “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين”. وبالتالي، صُدّرت الأزمات الداخلية لهذه الدول العربية، وعُولمت، لتتجه نحو الولايات المتحدة، بدلاً من حكّامها وقادتها المسؤولين عن تلك الأزمات والمشكلات، بدعوى أنّهم يتلقّون الدعم من الولايات المتحدة.
وصلت الاستنتاجات الجديدة في دوائر التفكير هناك أيضاً إلى أنّ الوضع القائم في العالم العربي لا يمكن أن يستمرّ على النحو القائم، نتيجة الأزمات المتتالية والإخفاقات الكبيرة لهذه الأنظمة، وتزامن ذلك لاحقاً مع صدور تقرير مهمّ وخطير، وهو تقرير التنمية الإنسانية العربية في العام 2002 ، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وحمل عنوان “خلق الفرص للأجيال القادمة”، وأشار إلى جملة الأزمات البنيوية التي يعيش فيها العالم العربي، مثل نقص الحرّية والعجز الديمقراطي، وفجوة المعرفة، والتحدّيات الاقتصادية والبطالة، وغياب المساواة بين الجنسين، وخلص إلى أهمية (بل ضرورة) الإصلاح السياسي عبر تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد.
ولعلّ تزامن صدور التقرير، الذي أثار ضجّة كبيرة في حينها، مع المراجعات الأميركية لأسباب “11 سبتمبر” (2001) حينها، هو ما أدّى إلى ولادة المبادرة الأميركية لتوسيع الديمقراطية في العالم الإسلامي، التي أعلنها في ذلك الوقت وزير الخارجية الأميركية، كولن باول، والضغوط التي تعرّضت لها الدول العربية في مجال إصلاح التعليم والخطاب الديني من جهة، واتخاذ خطوات في مجال الانفتاح السياسي من جهةٍ ثانية، والأهم أنّ هذه الدول تحوّلت في منظور واشنطن من حليف تاريخي قادر على تأمين المصالح الأميركية وتوفير الأمن الإقليمي في المنطقة، إلى عبء ومشكلة في حدّ ذاتها يجب إصلاحها. لم تقف المراجعات الأميركية عند هذه الحدود، بل تجاوزتها إلى مناقشة البعد الطائفي، إذ بدأت أدبياتٌ عديدة تطرح السؤال عن العلاقة بإيران الشيعية والقوى التي تدور في فلكها، ومدى إمكانية احتوائها والتعامل معها بعقلانية وواقعية مقارنةً بالعالم العربي السُنّي، الذي يشكّل التهديد الحقيقي للمصالح الأميركية، فالشيعة (وفق هذا المنظور الجديد) أقلّ خطراً من السُنّة، وهم أقلّية في المنطقة، يمكن التعامل معهم، وإيران دولة إقليمية مهمّة، ويمكن عقد صفقة عقلانية معها، لكن الحالة السُنّية المتشظّية المضطربة هي التحدّي الحقيقي.

وصلت التحوّلات الأميركية المعكوسة (في المسألة الطائفية) إلى ذروتها بعد عملية طوفان الأقصى والحرب على غزّة

لم يُكذّب السلوك الإيراني خلال الحرب الأميركية على العراق في العام 2003 هذه الخلاصات، إذ تجنّبت إيران التدخّل في المواجهة، وتركت المجال للأميركيين لاحتلال بغداد، وساعدت على ذلك بصورة غير مباشرة عبر دفع الشيعة إلى عدم ولوج المقاومة، بل إلى المسارعة في تشكيل تحالفات وقوىً سياسيةً تشارك في العملية السياسية الجديدة في العراق تحت الاحتلال الأميركي. وفي المُقابل، تحدّثت أوساط سياسية مقرّبة من “المحافظين الجدد” (يمسكون بزمام الأمور حينها في البيت الأبيض) عن الأغلبية الشيعية المضطهدة في العراق، وعن الديمقراطية التي تعيدهم إلى الحكم، وعن تغيير العالم العربي الإسلامي السُنّي. وحدث ما يشبه “زواج المتعة” بين السياسات الأميركية وإيران، والقوى السياسية الشيعية وإيران، في تلك المرحلة التي شهدت صعوداً جديداً للشيعية السياسية في المنطقة، أو “صحوة الشيعة”، كما جاء في الكتاب المهم للأميركي ولي نصر (Vali Nasr). في المقابل، أدّت فكرة إصلاح العالم العربي إلى صعود نظرية “الفوضى الخلاّقة” في أميركا، التي تقوم على عدم التخوّف من التغيير والخشية من البديل للأنظمة العربية، فلتدع الفوضى تنتج قوىً جديدةً، التي غالباً ستتصرّف بعقلانية مع الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة.
شهدت السنوات التالية تعزيزاً للدور الإقليمي وصعوداً لإيران في المنطقة، الأمر الذي أزعج إسرائيل، لكن الولايات المتحدة غضت الطرف عنه، وتشكّل ما يسمّى محور الممانعة، وبدأت الشكوك بشأن البرنامج النووي الإيراني. لكن ذلك كلّه لم يشكّل تحولاً في موقف أميركا، التي كانت تسعى إلى تجنّب المواجهة مع إيران، بخاصّة مع وجود الطرفين في العراق، ومع وجود مشكلة أكبر لدى الإدارات الأميركية في التعامل مع “القاعدة”، ضمن الحرب العالمية للإرهاب، التي أعادت تشكيل جزء كبير من منظور الولايات المتحدة نحو المنطقة العربية، وبالتحديد نحو الدول السُنّية التي أصبحت في نظر أميركا المشكلة، بخاصّة أن إيران والقوى السياسية التابعة لها في العراق تجنّبت أيَّ صدام مع أميركا، وتصرّفت بمستوى عالٍ وكبير من البراغماتية، بينما تصدّرت “القاعدة” في العراق المقاومة السُنّية للأميركيين، وشكّلت الصداع الحقيقي لهم هناك.
مع أحداث “الربيع العربي” (2011)، وما نجم عنه من سقوط أنظمة عربية حليفة للولايات المتحدة، تعزّزت النظرة الأميركية إلى “المشكلة الاستراتيجية في العالم العربي السُنّي”، وهو الأمر الذي تزامن مع وجود الرئيس الديمقراطي، باراك أوباما، في البيت الأبيض، والذي اتّهمته “الزعامات السُنّية” الحليفة لأميركا بالتخلّي عن أصدقائه، بل وعقد صفقةً مع الإسلام السياسي، وتزامن ذلك مع اكتمال “الهلال الإيراني” في المنطقة، وتمدّد النفوذ الإيراني في كلٍّ من العراق وسورية، وهو الأمر الذي استمرّت أميركا في غض النظر عنه، بخاصّة أنّ العدو الجديد، وهو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أكثر شراسةً من “القاعدة”، ولم يعد تهديده محدوداً كما كانت الحال مع “القاعدة”، بل أصبح أكثر خطورة وانتشاراً وتمدّداً، وأصبحت له دولة في العراق وسورية معاً، تستقطب عشرات آلاف من المقاتلين.
في الأثناء، توصّل أوباما ومجموعة “الخمسة +1” إلى اتفاقية مع إيران (2015) لتفتيش البرنامج النووي الإيراني، في مقابل رفع العقوبات عن طهران، وقد تجاوزت أميركا تماماً عن صعود القوى الإيرانية في المنطقة، وهنا نصل إلى بيت القصيد مع ما تسمّى “عقيدة أوباما” (كشف عنها الصحافي الأميركي جيفري غولد بيرغ، في مقاله في “ذا أتلانتيك” في 2016)، التي يصرّح فيها أوباما برؤيته أن الخطر الحقيقي ليست إيران، التي وصفها بالخصم الذي يمكن التفاوض معه، بل المشكلة في القوى السُنّية، والدول العربية مثل السعودية ودول الخليج، التي تنشر الأيديولوجيا السلفية الوهابية. وفي مقابل قدرة إيران على احتواء الجماعات الشيعية، والتصرّف بعقلانية وإمكانية التفاوض معها، فإنّ القوى السُنّية لا يمكن السيطرة عليها والتحكّم بها، وتُشكّل التهديد الأخطر على الولايات المتحدة.

بعد “11 سبتمبر”، رأت الأدبيات الأميركية أن العالم العربي السُنّي هو التهديد الحقيقي لمصالح واشنطن، والشيعة أقلّ خطر

لم يكن الإسرائيليون مسرورين أيضاً بأفكار أوباما، وكذلك الحال بالطبع الحلفاء العرب، الذين اتهموا الولايات المتحدة بالتخلّي عن حلفائها، ويمكن اعتبار تلك المرحلة الأكثر جفاءً بين أميركا وأصدقائها العرب، منذ عقود. واستمرّت الحال كذلك في التدهور إلى أن جاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، معيداً المنظور الواقعي التقليدي، ومجدّداً الصفقة التاريخية مع الأوتوقراطية العربية، ملغياً الاتفاقية مع إيران، وهو ما يمكن اعتباره بدء العدّ التنازلي لعودة العلاقة بين طهران وأميركا إلى المربع الأوّل (مرحلة ما بعد ثورة 1979)، بل ما هو أكثر من ذلك لاحقاً. في الأثناء، عقد مؤتمر هرتسليا في إسرائيل (2018)، وحمل تحوّلات جوهرية في الرؤية الأمنية الإسرائيلية (تزامن مع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران)، إذ أصبح يُنظر إلى إيران وأذرعها الإقليمية الخطر الأكبر على أمن إسرائيل، وعمل على تعزيز التطبيع مع الدول العربية، الذي أنتج لاحقاً الاتفاقات الإبراهيمية، ومفهوم “السلام الإقليمي”.
وصلت التحوّلات الأميركية المعكوسة (في المسألة الطائفية) إلى ذروتها بعد عملية طوفان الأقصى (2023) والحرب على غزّة، والدخول في مواجهات مباشرة (للمرّة الأولى) بين إيران وإسرائيل من جهة، والحرب مع حزب الله والحوثيين وحركة حماس، التي حُسبت على المحور الإيراني، وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وتفكّكه في سورية، وتقييد قدرات حزب الله، والحديث عن العراق للمرحلة المقبلة… وتمثّل هذه جميعاً نهاية مرحلة أحداث 11 سبتمبر (2001)، وما شكّلته من تحوّلات في المنظور الأميركي للمسألة الطائفية، للعودة إلى التحالفات والتصورات القديمة مؤقتاً، لأنّ العالم العربي والإسلامي لا يزال في حالة من التوتّر والتحوّل والانتقال، وبمثابة منطقة بركانية سياسياً واستراتيجياً.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى