
قبل القمّة العربية في القاهرة، وبعدها، احتضنت السعودية لقاءَين عربيَّين من الأهمية بمكان. تعلّق الأول بلقاء قمّة مصغّرة ضمّت قادة دول مجلس التعاون الخليجي، بمعيّة ملك الأردن عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، في لقاء صُنّف بـ”الأخوي غير الرسمي”. وهو توصيفٌ جاء درءاً لحساسياتٍ يمكن أن تبديها عواصم عربية أخرى (كما تأكّد مع “غضبة” رئيس الجزائر). وكان واضحاً أن الأمر يتعلّق بتوفير شروط نجاح قمّة عربية، جاءت في ظرف حادّ وشديد الخطورة، بعد أن أشهر دونالد ترامب مشروعه لتهجير أهل غزّة، بعد عملية تطهير لم يعرفها التاريخ المعاصر. وجاء اللقاء الثاني بعد يومَين من القمّة العربية، وجمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بمصر وسورية والمغرب والأردن، وكان شعاره “دعم أمن واستقرار المنطقة”.
لعلّ أهم ما في جدول أعمال القمّة، في ما يخصّ “ما قبل” و”ما بعد”، وجود بنية سياسية وتكتّل “جيو اقتصادي” قادر على أن يلعب دور “الناظم الإقليمي”، سواء في قضايا الشرق الأوسط، وفي قلبها قضية فلسطين، أو في ما يتعلّق بالترتيبات ذات العلاقة بالأمن والاستقرار في المنطقة العربية. في مقابل قوىً أخرى لا تُخفي إرادتها أن تتولّى هذا الدور، من قبيل تركيا أردوغان وإيران خامنئي وإسرائيل اليمين الفاشي، عبرالحريق الشامل.
دول عربية بالرغم من قوتها، كما هو حال مصر، تحتاج بالفعل إلى السند الخليجي في تثبيت طموحها أو مصالحها في اللعبة الدولية
وإذا نظرنا إلى الدول التي دخلت في دوّامات حروب أهلية (السودان وليبيا) أو دخلت في مراحل انتقال سياسي جرَّت تصدّعات كبرى على بلدانها (سورية واليمن وتونس)، فإن المجلس، إضافة إلى المغرب والأردن، يشكّل منظومةً ملكيةً قائمة وحدها وسط الدمار، ومستقرّة، ولعلّها النموذج الحيّ والأكثر قدرة على إنتاج الفعل الجيوسياسي المثمر. الدول العربية الأخرى، بالرغم من قوتها، كما هو حال مصر، التي تُعدّ رقماً حاسماً في المعادلة إقليمياً، تحتاج بالفعل إلى السند الخليجي في تثبيت طموحها أو مصالحها في اللعبة الدولية. وواضحٌ بالنسبة للأردن ومصر أن هذا السند ارتقى إلى سند عربي شامل، من خلال قرارات قمّة القارّة الماضية، وسيتّسع إلى المنظومة الإسلامية في القمّة الإسلامية، من حيث مواجهة مخطّط ترامب، وسعيه إلى حصر البلدين في زاويةٍ حادّة، بالضغط عليهما في قضية استيعاب (أو على الأقلّ استقبال) الفلسطينيين المهجّرين، الدائم أو المؤقت.
وقد تعزّز دور مجلس التعاون ناظماً جيوسياسياً في المنطقة على قاعدة تحليل متطابق للقضايا الدولية، كقضية فلسطين ودور القوى العظمى المتصارعة على خريطة العالم العربي، في فتراتٍ حاسمة، لأن مكوّناته حافظت على استقرارها، بالرغم من منعطفاتٍ شرسةٍ وقاسيةٍ عرفتها المنطقة العربية، منذ منتصف تسعينيّات القرن الماضي، مع سقوط جدار برلين ووصول القطبية الأحادية العنيفة إلى تدبير العالم، وما ترتب عنه من سقوط أنظمة وتفكّك دول، كالعراق مثلاً.
استطاعت هاته الكيانات أن تحافظ على وجودها، وكذا على طبيعة أنظمتها، وأبانت قدرةً معتبرةً في تجاوز الاستحالات السياسية التي وقعت بين براثنها أنظمة العالم العربي كلّه. وبعد نجاحها في تجاوز مخلّفات “عاصفة الصحراء” (1991)، تجاوزت “عاصفة الربيع العربي” (2011). ولعلّ أهم قرار اتُّخذ دعوة الملكيَّتَين، الأولى في أقصى الغرب الإسلامي (المغرب)، والثانية في تماس مع دائرة النار في الحدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، الأردن، إلى الانضمام إلى المجلس. وتعزّزت بذلك المنظومة المَلكية في لعب الأدوار الحاسمة في الدائرة العربية، ولربّما العربية الإسلامية.
ومن المغرب، تبدو كتلة مجلس التعاون الخليجي اختياراً تاريخياً وشبه قدري، مبنيّاً على واقعية سياسية وبراغماتية في التحليل. وهو ما قام به العاهل المغربي محمد السادس مند قرابة عقد، حين نبّه في قمّة الرياض 2016 إلى أن “المنطقة العربية تعيش على وقع محاولات تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، كما هو الشأن في سورية والعراق وليبيا. مع ما يواكب ذلك من قتل وتشريد وتهجير لأبناء الوطن العربي”.
لعلّ الدول التي تشكّلت في “المنظومة المَلكية العربية” تدرك أنها يجب أن ترتقي بشراكتها إلى ما هو أعلى وقابل للقياس والترقيم
وكان واضحاً أن القيادة المغربية تقرأ بعين مشتركة تفاعلات ما يجري في المنطقة، وفي طول الخطّ العربي وعرضه، إذ ولدت “تحالفات جديدة” هدفها إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، عبر إشعال الفتنة وإحداث الفوضى، “لن تستثني أيّ بلد”، وتكون لها تداعيات خطيرة “على المنطقة، بل على الوضع العالمي”. ولعلّ الدول التي تشكّلت في ما نسمّيها “المنظومة المَلكية العربية” تدرك أنها يجب أن ترتقي بشراكتها إلى ما هو أعلى وقابل للقياس والترقيم، وهي المصلحة الاقتصادية المشتركة، وإعطاء مضامين لهذا الارتقاء، بعيداً ممّا يتحقّق سياسياً وتاريخياً وثقافياً، وما إلى ذلك. ولذلك، يطمح المغرب بصفته عضواً شريكاً أن تعاد هيكلة العلاقة بينه وبين منظومة الخليج، على أساس آليات متجدّدة، وهيكلة مؤسّساتية مستحدثة، منها جعل القمّة المغربية الخليجية آليةً مرجعيةً في كلّ ما يتعلّق بالشراكة المفترض أنها ستدخل مرحلةً جديدةً، إلى حدود 2023، وإيجاد مجلس مشترك بين رجال الأعمال، وفتح الباب واسعاً نحو أفريقيا، من خلال مبادرات تسمح للمجلس بالامتداد الأفريقي من بوابة مضمونة وأكثر استقراراً، عرفت إصلاحات اقتصادية عديدة (ضريبية وأخرى تخصّ الاستثمار وقوانينه وشروطه الأكثر انفتاحاً)، هي المغرب. ولعلّ المطلوب فيها شراكة من أجل استثمار مواعيد رياضية اقتصادية، كتنظيم المونديال والاستثمار الطاقي في أنبوب الغاز الأفريقي الأطلسي بين نيجيريا والمغرب، ومبادرة فتح الطريق لدول الساحل نحو الواجهة الأطلسية، وهي مشاريع هيكلية ومفيدة للمغرب، لكنّها، في الوقت نفسه، تثبّت أدواراً قارّيةً أوسع للمنظومة السياسية في الخليج.
الطموح الأكبر صار مسموحاً به، على أساس هدف مُعلَن، “تجديد العقد الاستراتيجي” لمواجهة تحدّيات كبيرة وخطيرة.
المصدر: العربي الجديد