“المفاوضات السورية – الروسية: بين التكتيك السياسي والتحالف الاستراتيجي”

عصام الهيطلاني

ـ منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا عام 2015 ، أصبحت موسكو القوة الرئيسية التي تسيطر على مفاصل القرار السياسي والعسكري في دمشق. حيث أُجبرت الحكومات السورية المتعاقبة ، التابعة للنظام المخلوع ، على توقيع عقود اقتصادية وعسكرية غير متوازنة وغير عادلة ، وذلك استجابةً لحاجة النظام السوري الماسة إلى الدعم العسكري الروسي في الساحة السورية ، وتأمين المظلة السياسية له في المحافل الدولية.

ـ ومع بداية المرحلة الجديدة بعد سقوط النظام المخلوع ، وتولي الرئيس الانتقالي ” أحمد الشرع ” زمام الأمور ، بدأت العلاقات بين سوريا وروسيا تأخذ منعطفًا جديدًا ، بغض النظر عن الدور العسكري الروسي ، الذي كان له تأثير بالغ في إطالة أمد الحرب ، مما أدى إلى مزيد من الألم والضحايا والخراب والدمار.

ad

ـ في ظل هذه الظروف الصعبة ، جاءت زيارة الوفد الروسي إلى دمشق ، برئاسة نائب وزير الخارجية ” ميخائيل بوغدانوف “، بالإضافة إلى الاتصال الهاتفي بين الرئيس الانتقالي ” أحمد الشرع ” والرئيس الروسي ” فلاديمير بوتين “، وذلك بهدف بحث مستقبل الاستثمارات الروسية في سوريا من ناحية ، ومراجعة الاتفاقيات المتعلقة بالوجود العسكري الروسي من ناحية أخرى.

ـ وقد ركزت هذه المباحثات على ضرورة إعادة ضبط إيقاع العلاقة بين الطرفين ، بما يتناسب مع توازن المصالح الإستراتيجية بينهما ، بعيدًا عن الهيمنة الروسية السابقة ، التي خدمت مصالح موسكو وحلفائها على حساب مصلحة الشعب السوري.

ـ تسعى هذه المفاوضات إلى معالجة التحديات التي خلّفها النظام البائد ، بما في ذلك إعادة تقييم العقود العسكرية والاقتصادية غير المتوازنة ، والعمل على تأسيس علاقة جديدة أكثر توازنًا تحقق مصالح سوريا في المرحلة المقبلة.

ad

ـ تمثل هذه المرحلة فرصة تاريخية لإعادة تقييم التعاون الثنائي بين سوريا وروسيا ، وذلك من خلال التفاوض على شروط جديدة تضمن للسوريين مصالحهم الاستراتيجية ، وتحافظ على أمنهم القومي ، بعيدًا عن الدور الذي لعبته موسكو سابقًا كضابط إيقاع في العلاقات لصالح مصالح أطراف أخرى ، مثل إسرائيل على سبيل المثال لا الحصر.

المفاوضات  السورية ـ الروسية بعد سقوط الأسد

ـ بعد سقوط نظام الأسد البائد ، يواجه الشعب السوري تحديات جسيمة في التفاوض حول المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد. وفي هذا السياق ، يعكس اللقاء الذي جرى بين الرئيس الانتقالي ” أحمد الشرع “ومبعوث الرئيس الروسي” ميخائيل بوغدانوف ” حقيقة أن النظام الجديد في سوريا لا يمانع في الحفاظ على علاقة متوازنة وطبيعية مع روسيا ، رغم أن هذه العلاقة تثير العديد من التساؤلات والتحديات على عدة أصعدة ، من أبرزها مسألة الديون السورية المستحقة لموسكو ، والتي تتراوح قيمتها بين 20 و 23 مليار دولار.

ـ ووفقًا للتقارير التي نشرتها ” وول ستريت جورنال ” ، فقد بذلت الإدارة السورية الجديدة جهودًا كبيرة للتفاوض مع روسيا بشأن إعادة هيكلة هذه الديون ، بل وسعت إلى إلغاء جزء منها مقابل استمرار الوجود العسكري الروسي في الأراضي السورية ، إضافة إلى مساعي روسيا لإبرام صفقة سياسية جديدة تضمن بقاء قواعدها العسكرية في سوريا.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه : هل المفاوضات السورية – الروسية مجرد تكتيك سياسي من جانب روسيا ، أم أنها تعكس نية حقيقية لبناء تحالف استراتيجي بين البلدين..؟

التساؤلات حول الوجود العسكري الروسي في سوريا

ـ تُعد القواعد العسكرية الروسية في سوريا إحدى القضايا البارزة التي تشغل القيادة والشعب السوري ، إذ تثير هذه القواعد القلق بشأن احتمال تحولها إلى نقطة ارتكاز للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد. فهي تقع في مناطق قريبة من معاقل النظام السابق ، والتي كانت بيئته الحاضنة قبل وخلال الثورة السورية ، مما يجعل دمشق حذرة في التعامل مع هذا الوجود العسكري الروسي.

ـ كما يعكس الوجود الروسي في الساحل طبيعة العلاقة الوثيقة التي جمعت النظامين السوري والروسي لعقود في المجالين العسكري والأمني ، وهو ما يجعل هذا الملف شديد الحساسية بالنسبة إلى السلطة السورية الجديدة. وتزداد هذه الحساسية في ظل انعدام الثقة بالجانب الروسي ، سواء بسبب دعمه السابق للنظام المخلوع أو لتوفيره الملاذ الآمن لأقطاب النظام البائد ، فضلًا عن استمرار وتصاعد الهواجس الأمنية الناجمة عن عدم الاستقرار في المنطقة.

ـ من جهة أخرى ، يسعى الروس إلى الحفاظ على مصالحهم الإستراتيجية في سوريا ، خاصة فيما يتعلق بوجودهم العسكري في البحر الأبيض المتوسط ، حيث تُعد قاعدتا ” حميميم وطرطوس  ” محورين أساسيين لهذه المصالح.

ـ لذا ، أصبح البحث في اتفاقيات الإذعان التي أبرمها النظام السابق مع الجانب الروسي ، والتي تضمنت عقد إيجار طويل الأمد لهاتين القاعدتين لمدة 49 عامًا ، مسألة حيوية بالنسبة لروسيا ، إلا أنها في المقابل تشكل عقبة أمام الحكومة السورية المؤقتة. إذ تسعى الحكومة الجديدة إلى تعديل بعض بنود المعاهدات والاتفاقيات التي أُبرمت في ظروف غير طبيعية ، اتسمت بالخضوع للهيمنة الروسية على القرار السياسي والعسكري السوري خلال فترة الثورة.

ـ لذلك ، تعمل الحكومة السورية الجديدة على تقليص مدة عقد الإيجار وإعادة النظر في بعض شروط الاتفاقية التي تؤثر بشكل أو بآخر، على السيادة الوطنية من جهة ، وفي الوقت نفسه تسعى لإيجاد حل وسط مع الشروط الأوروبية التي تشترط مغادرة القوات الروسية للأراضي السورية ، كشرط لرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا من جهة أخرى.

التعويضات عن الأضرار والعدالة السورية

ـ تُعد مسألة التعويضات عن الأضرار التي لحقت بالمدن السورية جراء العدوان الروسي .. أحد المواضيع الأساسية في مفاوضات موسكو ودمشق. حيث تتزايد المطالب السورية بضرورة تعويض الدولة والشعب عن الدمار الواسع الذي خلفته الحرب ، بالإضافة إلى إعادة الأموال التي تم نهبها من قبل النظام السابق وأودعت في حسابات مصرفية روسية. تأتي هذه المطالب في وقت حساس ، حيث يبدي السوريون رغبتهم في تحقيق العدالة والمحاسبة لكل من تسبّب في هذه الأضرار، حيث يحمّل الشعب السوري الرئيس ” بوتين ”  مسؤولية كبيرة عن الخراب والدمار الذي ألحقه القصف الروسي بالمدنيين ، وبالتالي فإن من واجبها المساهمة في إعادة إعمار سوريا وتعويض الضحايا. وهو ما يثير قلقًا في موسكو ، إذ يرى البعض أن التوازن بين المصالح الاقتصادية لروسيا وبين العدالة التي يسعى الشعب السوري لتحقيقها ، سيكون اختبارًا حاسمًا للعلاقة بين الجانبين. وفي هذا السياق ، قد تلعب المقايضة برأس ” الأسد ” المخلوع أحد المقاربات الممكنة لإيجاد حل لهذا الموضوع ، مما يفتح المجال لصفقات سياسية تتضمن تعويضات مالية في مقابل تسوية للأزمات الناجمة عن الحرب.

تطورات جديدة في العلاقات السورية – الروسية

ـ على الرغم من التحديات التي تواجهها الحكومة السورية المؤقتة ، تظل العلاقات السورية – الروسية ذات أهمية إستراتيجية لكلا الجانبين. فقد أكد الرئيس السوري ” أحمد الشرع ” ، في تصريحاته السابقة ، على أهمية الدور الروسي وضرورة استمرار التعاون مع موسكو ، خاصة في ظل الضغوط والعقوبات والظروف الدولية والإقليمية التي يواجهها النظام السوري الجديد.

“ـ ورغم الهواجس والتوترات التي قد تنشأ بين الحين والآخر ، تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى بناء علاقات إستراتيجية مع روسيا ، حيث تنظر إلى موسكو كحليف سياسي وعسكري مهم في عملية إعادة بناء الدولة السورية من جهة ، وإلى خلق نوع من التوازن في العلاقات السياسية مع الغرب من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك ، تسعى السلطة الجديدة إلى استقطاب روسيا وإبعادها عن إيران ، حليفها التقليدي والإستراتيجي في الساحتين الإقليمية والدولية ، لأن التنسيق بينهما في الساحة السورية سيهدد استقرار السلطة السورية الجديدة ، حيث أن مصلحة الطرفين الروسي والإيراني تتقاطع في عودة النظام السابق إلى سدة الحكم.

ـ تأتي هذه المساعي في ظل رفض إيران التام للمتغيرات والمستجدات التي طرأت على الساحة السورية ، حيث لا تزال تأمل في استعادة نفوذها في البلاد عبر التنسيق مع فلول النظام المخلوع في الساحل السوري ، مما يثير هواجس العهد الجديد في سوريا من امكانية تشكيل تحالف جديد .. قد يهدد وجوده عبر زعزعة الاستقرار الأمني في البلاد.

ـ من خلال هذه التقاطعات السياسية ، تمارس روسيا أسلوب التكتيك السياسي ، حيث تغمز تارة نحو التطلعات الإيرانية ، وتارة أخرى نحو الرغبات الإسرائيلية ، وذلك على مرأى السلطة الجديدة في سوريا التي تسعى إلى استمالة التواجد الروسي ، لكن على قاعدة إعادة النظر في العديد من الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال فترة حكم الطاغية  بشار الأسد ، مثل الاتفاقيات المتعلقة بإدارة مرفأ طرطوس ، واستثمار الفوسفات وحقول الهيدروكربون في منطقة تدمر، والتنقيب عن النفط والغاز، بالإضافة إلى العقود الخاصة بالاستثمار السياحي في سوريا.

ومع ذلك ، فإن هذه الاتفاقيات التي يراها العهد الجديد غير متوازنة وغير عادلة ، ستخضع لإعادة التقييم بما يضمن مصلحة سوريا في المقام الأول ، خاصة في ظل الحاجة إلى استثمار كافة الثروات السورية من أجل إعادة الإعمار والنهوض بالبلاد من جديد.

والسؤال المطروح : هل يستطيع العهد الجديد استمالة الدب الروسي لصالحه وسط تشابك المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية في المنطقة ..؟

وفي النهاية

ـ لقد خلف سقوط نظام ” بشار الأسد ” البائد إرثًا ثقيلًا ، يتطلب مفاوضات معقدة و مكثفة مع الجانب الروسي حول عدة قضايا هامة ،  إلغاء القروض الروسية على سوريا ، والتعويضات الروسية للجانب السوري عن الدمار والضحايا الذين خلفهم العدوان الروسي ، بالإضافة إلى إعادة الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة السورية. كما يتعين تحديد الغاية من تواجد القواعد الروسية في الساحل السوري ، ومراجعة العقود والاتفاقيات العسكرية و الاقتصادية والسياحية.

ـ إن المفاوضات السورية ـ الروسية الحالية لا تقتصر على النقاط الخلافية بين الجانبين فحسب ، بل تشمل قضايا حاسمة تتعلق بتحديد طبيعة العلاقات بين سوريا وروسيا ، فضلاً عن ماهية الدور الروسي في المنطقة ، بما في ذلك علاقاته الحميمة مع الكيان الإسرائيلي وايران . ـ كما تطرح قضية تسليم الرئيس السوري المخلوع إلى العدالة السورية ، بالإضافة إلى العديد من القضايا الأخرى التي ستكون محورية في تحديد مسار العلاقة بين الطرفين.

ـ ما سينتج عن هذه المفاوضات حول القضايا العالقة بين سوريا وروسيا سيكون له تأثير كبير على التوجه السياسي لسوريا في المستقبل. إذ ستحدد هذه المفاوضات ما إذا كانت سوريا ستستمر في علاقتها الاستراتيجية مع المعسكر الروسي ، أم ستتجه نحو المعسكر الغربي.

وفي هذا السياق ، من المتوقع أن تبذل روسيا جهودًا مكثفة لتثبت قناعتها السياسية بقبول الأمر الواقع والتخلي عن حلم عودة النظام البائد إلى السلطة مجددًا ، وكذلك حسم ولجم الطموحات الإيرانية في العودة إلى الساحة السورية ، وخاصة بعد فشل محاولة الانقلاب الأخيرة التي حدثت في الساحل السوري المركز الاثقل لروسيا وايران.

ـ ولعل تسليم ” الأسد ” وضباطه الهاربين من وجه العدالة واستعادة الأموال المنهوبة من خزينة الدولة ، سيعدّ خيارات روسيًا ثابتًا ونهائيا نحو دعم الاستقرار السياسي والأمني في سوريا ، وعربونًا لبداية وانطلاقة جديدة بين البلدين. بل سيكون أيضا .. بمثابة خطوة اعتذار مفتوحة للشعب السوري ، مما يساهم في طي صفحة الماضي والتطلع الجاد في تحسين وتطوير العلاقة بين الطرفين.

كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا

ألمانيا ـ كولن

المصدر: رأي اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى