الجزائر وفرنسا… أزمة مستدامة

سلام الكواكبي

يقع الباحث في الحيرة عند معالجة الملفات الحساسة في العالم، أو عند مقاربتها، وخصوصاً في جزئه العربي جغرافيّاً، فهو يخشى أن تقع عليه التصنيفات والملامات والملمّات من كل حدبٍ وصوب. حتى لو كان عمله شديد الموضوعية وبعيداً عن الانحياز لأيٍّ من أطراف المعادلة المتشابكة والشائكة. هذا هو حال الباحث إن أراد أن يكتب نصّاً علميّاً مستنداً إلى النظرية وإلى أرض الواقع والتحليل الرصين والمعالجة الهادئة في عشرات الأوراق ومئات الأسطر. فما بالنا بحاله عندما يرغب في الاختصار ونقل البحث العلمي، الذي يقرأه بعض المختصين ليبقى بعدها حبيس المكتبات أو الذواكر الحاسوبية، ليصبح على شكل مقال؟
أخيراً، خرج أحد أعمدة الصحافة المرئية الفرنسية، جان ميشيل أباتي، الذي له تعليق شبه يومي على الأحداث العالمية، بموقفٍ واضحٍ للغاية من جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر منذ بداية استعمارها سنة 1832 والذي استمر 132 عاماً، قبل أن تستقل الجزائر. وجاء تعليقه في خضم الجدل الحاد والمتشعّب القائم بين حكومتي فرنسا والجزائر، والذي تغيب عنه الدبلوماسية فرنسيّاً أولاً وجزائرياً ثانياً. جدلٌ تُعزّز فيه الحكومة الفرنسية اليمينية حظوظها الانتخابية، أو هكذا تعتقد وتأمل، كما أنها تميل إلى يمينٍ أكثر عنصرية يُحاكي اليمين الفرنسي المتطرّف، بل ويكاد يتجاوزه بالجرأة، أو بالوقاحة.

هاجمت القوات الفرنسية الأغواط الجزائرية، وأبادت حوالي ثلثي سكانها بالقصف المدفعي والغازات السامّة

في سنة 2021، أنجز المؤرّخ الفرنسي من أصل جزائري، بنجامين ستورا، وبناءً على تكليف من الرئيس إيمانويل ماكرون، تقريراً عن مسؤولية فرنسا في الملف الجزائري. اشتمل على ضرورة الاعتراف بما سماها الأحداث التاريخية المؤلمة بين البلدين، من دون أن يوصي بتقديم اعتذار رسمي عنها من الجانب الفرنسي. كما أوصى بفتح الأرشيف الفرنسي وتسهيل الوصول إليه. ولتزيين الموضوع وكأنه “جنحة”، اقترح التقرير تكريم شخصياتٍ لعبت دوراً في تلك الفترة، مثل المحامي علي بو منجل، والذي اعترفت فرنسا باغتياله بعد عدة عقود على ذلك. وأخيراً، اقترح التقرير تنظيم فعاليات بين البلدين لإحياء بعض الأحداث المهمة وتعزيز الحوار، من خلال معالجة هذه المرحلة بشكل أكثر عقلانية وموضوعية في منهاج التعليم الفرنسي. وبالطبع، كان النص كثير الحذر، بحيث سعى إلى تجنّب التوصية بتقديم أية تعويضات أو حتى المساهمة التقنية في معالجة آثار التجارب النووية التي كانت تجريها فرنسا في الصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966، والتي أدّت إلى حدوث تلويث إشعاعي خطير. وعلى الرغم من اعترافها ببعض أضرار ناجمة عن التجارب، إلا أن باريس لم تقدم اعتذاراً ولا تعويضات لذوي الضحايا.
لم يتوقف الصحافي آباتي عند هذه المجازر، بل عاد أيضاً بالتاريخ إلى ما حصل ضد قبائل زواوة بين 1832 و1837، حيث طبقت فرنسا سياسة الأرض المحروقة، مخلّفة آلافاً من القتلى، وأحرقت القرى ودمّرت المحاصيل. كما أشار إلى محرقة الظهرة سنة 1845، حين لجأ ما يقارب ألف فرد من قبائل بني صبيح وبني سليمان إلى كهوف الظهرة، فأمر قائد القوات الغازية الجنرال باجو بإشعال النار وإغلاق الكهف من الخارج، ما أدى إلى مقتل جميع اللاجئين اختناقاً. وتلتها سنة 1852 محرقة الأغواط، حين هاجمت القوات الفرنسية المدينة الصحراوية في الجنوب الجزائري، وأبادت حوالي ثلثي سكانها باستخدام القصف المدفعي والغازات السامّة، وارتكبت جرائم اغتصاب ونهب واسعة. وعندما اعترضت على كلامه إحدى المحاورات قائلة له “أنت تعني أن فرنسا كانت نازية”، فأجابها فوراً “النازية لم تكن موجودة، ولكنها تعلّمت حين ظهرت بعدها من ممارسات الإبادة الجماعية للجيش الفرنسي في الجزائر”.

اشتمل تقرير بنجامين ستورا (بناءً على تكليف من ماكرون) على ضرورة الاعتراف بما سماها الأحداث التاريخية المؤلمة بين الجزائر وفرنسا، من دون أن يوصي بتقديم اعتذار رسمي

طبعاً، لم يُعجب هذا الكلام الموثّق علميّاً “الرأي المهيمن” الفرنسي، والذي شنّ، برموزه الإعلامية الأكثر نفوذاً، هجوماً عنيفاً على هذا الصحافي الجريء، معتبراً أنه يساريٌ ومؤيّد للقضية الفلسطينية. الربط أسرع من الصوت إذاً بين من لا يمشي في مجاري الرأي المهيمن والذي خرج عن الصراط المتعرّج والموبوء للإعلام المؤدلج والعنصري والمتصهين من جهة، وبين اليسار والإسلاموية والوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية وتأييد “الإرهاب” ضد العالم “الحرّ”. وفي ظل المكارثية الجديدة في فرنسا، الحكومية والإعلامية والقضائية، لن يكون مستغرباً أن يُحال من جهر بهذه الحقائق إلى القضاء بتهمة تكاد تكون مستوحاة من تهمة “وهن عزيمة الأمة” الأسدية البائدة، وصار اسمُها فرنسياً “التشجيع على الإرهاب”.
حصلت السلطات الجزائرية على طبقٍ من الذهب ممتلئ بالألماس عوّضها محليّاً عن الاستجابة للمطالب الشرعية لشعبها المُفقر والممنوع عن التعبير. ولطالما استغلت الأنظمة غير الديمقراطية الصراعات الخارجية في حرف الأنظار عن واقعٍ داخليٍ مؤلم. وعند تعظيم الخطر الخارجي، سيتم حشد الشعب الوطني والملتزم باستقلال بلاده، نحو التضامن مع موقف دولته رغم كل مساوئها وإساءاتها.
هل أجبت عن سؤال المقدمة؟ أعتقد ذلك، وللتبسيط، وانطلاقاً من التجربة، ففرنسياً سيهاجمني بعضهم معتبراً أنني “إسلاموي ويساري ومؤيّد للقضية الفلسطينية”. وجزائريّاً، سيصنفني آخرون بأنني “جزءٌ من مؤامرة غربية مغرضة للنيل من عظمة البلاد وقادتها”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الخلاف الجزائري الفرنسي مستمر مع وجود حكومة جزائرية وطنية غير مسيرة من المحتل السابق، فرنسا إحتلت الجزائر 130عاماً وقتلت أكثر من مليون شهيد ودمرتبنى تحتية، هل إعترفت بجرائمها؟ هل عوضت عن إرهابها؟ لذلك البقية تفصيلات للأساس.

زر الذهاب إلى الأعلى