
في حين تعتبر القبيلة أقدم البنى الاجتماعية تواجدا في المجتمع البشري، والأكثر تعرضا للوصم بالتخلف، والتأخر، وتمحورا حول عصبة الدم التي تجمع أبناءها، لا بد من الانتباه إلى ما تم تكريسه في الخطاب الثقافي العربي باعتبارها بنية مفوتة، ومن دون أن نختلف مع هذا التصور رغم عدم الاتفاق الكلي كذلك، لابد من البحث عن دورها في العقود الأخيرة، وفي مرحلة ثورات الربيع العربي – سوريا خصوصا- حيث بعد تتبع دراسات عديدة، وأبحاث حديثة لمراكز دراسات رصينة؛ نجد أنها انحسرت إلى مستوى قيم عليا تتعلق بالتباهي بالأصل، وقيم الكرم والشجاعة، والأعراف التي تضبط خلافات الأفراد والجماعات، عبر التعاهد على ضوابط سميت ب “المضابط القبلية” لضمان أسس سلم أهلي.
بالتوازي مع ذلك ثبت تشظي القبيلة إلى عناصر أصغر؛ رغم بقائها كسلف ورمز يعتد به، ورأسمال رمزي يلعب دورا اعتباريا؛ فقد تشظت إلى عشائر وأفخاذ وبطون بل حتى إلى حَمولات وعوائل وبيوتات؛ بعد تعرضها لضغط خارجي هائل بغرض استثمارها واستعمالها كأطر تحشيد. إن القبيلة ــــ البنية المدفوعة بالخوف على الجماعة والمزروع في مخيالها الجمعي كغريزة؛ ذهبت إلى التوزع على مختلف المشاريع التي داهمتها؛ ما ضيق مساحة وأطر التحشيد، وحصرها إلى مستوى البيوتات والعائلات الصغيرة. فما عادت تظهر ككتلة واحدة متماسكة إلا في حالة خوضها حربا مع قبيلة أخرى، ولم تقف قبيلة برمتها مع الثورة مثلما لم تقف قبيلة برمتها مع النظام، ولعل الثورة التي تركت أثرا في تنوع المواقف لدى أبناء القبائل من شتى مشاريع القوة، وسلطات الأمر الواقع المتعاقبة والمتناقضة؛ توصلنا إلى نتيجة أن هذا التنوع والتعدد في المواقف والتخالف يحمل دلالة ثراء، و إمكان تعدد واختلاف رغم أنها تواجه في سلطات الأمر الواقع أمرا مرتبطا ارتباطا شديدا بخيط الدم الذي يربط أبناءها واحتمال اصطدامهم فيما بينهم. كما يصطدم مع العامل الأساس الذي شكل ضمانة استمرار القبيلة عبر التاريخ وهو الحفاظ على النوع أو على الجماعة. وإذا ذهبنا إلى ما تشترك فيه جملة القبائل في الثقافة القبلية من ذهنية الغنيمة، والنكاية، والتنافس والتصارع على الموارد، أو على مراكز القوة والنفوذ؛ لكن ذلك لم يكن إلا محليا في وسط انتشار القبيلة أو محيطها، وقد استثمرها نظام البعث ضمن نمط أداتي وظيفي؛ فشظاها أكثر ولم يخرجها أو يرفعها إلى مستوى الحلم بالاشتراك بالدولة، وإنجاز ما أنجزته القبيلة في الخليج العربي. قبالة ذلك في الطائفة نجد مقارنة ناجعة بين بنيتين اجتماعيتين كل منهما تمثل كل منهما بنية ما قبل دولتية، ورغم سكن واستقرار الطائفة قريبا من المدن أو ضمنها؛ في حين أن القبائل كانت في الريف البعيد وفي المناطق النائية وبعيدا عن مراكز التعليم، وكانت غالبا ذات نشاط زراعي ورعوي ينهل من أفق البداوة. لم نجد الطائفة أكثر إمكانا ومقدرة على التعلم وعلى التطور والوعي المديني بما يدفع لأن تكون رافدا للدولة، رغم أن قربها من المدينة ومن السياسة كان كفيلا بتحويلها من بنية ما قبل دولتية إلى رافد اجتماعي من الروافد كثيرة التي يمكن أن ترفد الدولة بالخبرة والطموح والوعي والشراكة الوطنية والعفل السياسي.
عند المقارنة بين البيئتين في مرحلة الثورة السورية نجد أن البنية القبلية قد شهدت تشظية أقرب إلى التنوع الذي يتفق والمشاريع الدولتية بشكل ما، في حين أن الطائفة بقيت متماسكة رغم اتسامها بكثرة مثقفيها وناشطيها، وتعدد الطروح الأيديولوجية التي يمكن أن تعتورها، إذ برز دور الطائفة كإطار تحشيد ما قبل دولتي بشكل أكثر حدة وقوة مما يظهر لدى القبيلة؛ فما هي المحددات التي لعبت في شكل هذا الدور والتحشيد. ورغم أن الطوائف في الغالب بنيت أيضا على بنية قبلية أو انبثقت عنها وتعيش بعضا من التناقض أو التزاحم فيما بينها، لكنها تشترك فيما بينها مع الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا كطائفة أو كقبيلة واحدة.
وإذا عدنا إلى القبيلة فإن الآخر يعني قبيلة أخرى، وليس غريبا أبدا بأن نرى أن كل قبيلة عاشت بالتشابك أو بالتجاور مع قبائل أخرى ما يعني أن ذهنيتها في التنافس والتزاحم مشتعلة تقتضي تحشيدا دائما، سواء على الأرض العشب، الماء، والكلأ، أو على الوظائف في أطراف المدن ما يعني قوة أطر التحشيد في المستوى النظري أو الافتراضي، لدرجة يجعلها أقل قدرة عن الانغمار في الدولة المؤسسي. قبالة ذلك لا يظهر الآخر لدى الطائفة إلا في مستويات أبعد، وقد لا تقتضي تحشيدا في ظل غياب حرب أو مناكفة أو عنف أو سباق سياسي، ولعل الأسد لتثبيت حكمه أوغل في تجيير الطوائف والأقليات داخليا لجعلها تتخيل الآخر وحشا يمكن أن يلتهمها مع تشجيع لتداول بضع من سردياتها المستولدة و المفوتة والمكذوبة أيضا والملفقة، كما ضمن وجود شعور مضمر لدى الأكثرية بأن الأقليات هي الأخرى انتهازية، وتعيش حالة ندية اتجاهها فوقع الطرفان في القراءة النمطية، والثنائيات المعيارية، لكن تجاوز تلك القراءات اعتمادا على ما شهدناه في التاريخ القريب يوضح لنا أمرا يحتاج إلى بحث وتنقيب؛ فالطائفة حفلت بمواقف وطنية كما حفلت أو شهدت مواقف خارج الإجماع الوطني فما السر في ذلك؟ ألا يمكن قراءة ذلك على أنه تعدد أو انشطار أو تشظ؟ لكن ما يطعن ذلك هو أن مثقف الطائفة يمكن أن يدافع عنها أو يعتبرها مرجعيته ولو كان لا دينيا أو ملحدا أو يساريا، هنا تتحول الطائفة من قبيلة إلى وعاء اجتماعي أو بنية يسند ظهره إليها وشبكة ثقة، ولعل ما بنيت عليه مجتمعاتنا يعطي العذر لهذا أو ذاك أن يبحث عن السند الاجتماعي من خلال بنية، غير أن ذلك يخالف سيرة هذا المثقف أو ذاك بأنه ابن مدينة وتربطه شبكة علاقات بالمجتمع بشكل أوسع من بيئات الريف عموما، مثلما أن أي مجتمع مديني محمل بعلاقات لا تهتم ولا تلقي بالا للمرجعية التي يأتي منها. في كلا البنيتين هناك شيخ ومثقف شكلا متن القوة -السلطة، كما أن الشيخ في كلا البنيتين قد عانى من ضعف في دوره عبر التشظي في القبيلة ، وعبر الثقافة والوعي المديني لدى جماعة الطائفة قبالة ضعف الشيخ في الطرفين نظريا، غير أن مثقف القبيلة خرج من القبيلة ولم يحمل رايتها ولم يبحث عن سند اجتماعي عندما غادرها، في حين أن المثقف لدى الطائفة خرج على الطائفة في فكره وخرج عن دينها في ممارساته، لكنه ما لبث أن عاد إليها بعد قليل من التماحك الذي حك جلده فأظهر طائفية مقيتة؛ لا يمكن أن ننسى ظهور نسبة معتبرة من المثقفين الذين خلعوا الطائفة سواء بسواء مثل مثقف القبيلة، ورغم أن القبيلة تعد التعدد والمرونة ضعفا وخورا وفقا لمفهومها نجد السؤال الأهم: لماذا احتملت القبيلة كل هذا التعدد والمرونة، في حين أن الطائفة بقيت صارمة في قدرتها على مثقفها الملتزم بها تحت جلده، ومحاصرة المثقف الخارج عليها؟
في دراسة بحثية مقارنة ما بين القبيلة والطائفة وجدنا أن الثورة حولت قواعد اجتماعية عريضة لدى القبيلة إلى شبكات تتجاوز القبلية وهرميتها وأنساق السلطة فيها، بعيدا عن مستوى التعليم والوعي والثقافة والعيش المديني غير المتيسر أصلا، وتتجاوز عصبتها تلك التي لا تميز بين حق وباطل وتدور حول البنية المؤطرة للتحشيد حول فلكها، في حين بقي مثقف الطائفة المتجاوز لها والمنخرط في رؤاه الوطنية محاصرا بقواعدها البسيطة والعامة وعاجزا عن تبيئة فكره و آفاق وعيه في مجتمع الطائفة، وبقي الشيخ فيها سواء كان أصيلا أو صنيعا أكثر قدرة على التحشيد، إن ذلك يفتح باب التساؤل عن إمكانات الفعل وقدرات التجاوز لدى النخب الناجزة والناشطة في بناها ما قبل الدولة، وإذا ما اعتبرنا أن تشظي القبيلة كان لضعف منها أو قلة حيلة، فلماذا كانت القواعد الشبيهة بقواعد القبيلة لدى الطائفة تمتلك الحيلة التي تفيد في تماسكها وتحشدها خلف المشيخة؟
تلك أسئلة قد تفيد في حل معضلات كثيرة في فهم كل من البنيتين كما قد تفسر موجة التصيد في سيرة الثورة السورية فهوجمت بالنقد الموتور والمرتجل، وعندما ثارت تلك البيئات التي حفلت بالنقد والتجريح في أحسن حال ارتبكت ماكانت تجرح به الآخر ورفضت النقد المعتدل وبنت لنفسها طهرانية كاشفة عن تحيز فتعثرت وأربكت الجميع.
المصدر: تلفزيون سوريا