ما السبيل لوقف استباحة سورية؟

محمود الريماوي

يواجه السوريون ونظامهم الجديد قيد التبلور تحدّياً وجودياً يفرضه الاحتلال الإسرائيلي باستباحة البلاد برّاً وجواً وتدمير القدرات الدفاعية والتهديد بإقامة منطقة عازلة واسعة، وخلال ذلك العمل على تقسيم البلاد. … لم تمض 24 ساعة على يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي الذي سقط فيه حكم آل الأسد سورية، حتى كانت قوات الاحتلال تقتحم مناطق في جنوب البلاد وتسيطر على قمم جبل الشيخ. وأتبعت ذلك في الأيام التالية بغارات على مطاراتٍ عسكرية وعلى منشآت ومستودعات عسكرية، وأقامت ما سمّتها منطقة عازلة متعلّلة بمغادرة جنود النظام السابق مواقعهم، بما أسقط اتفاق فضّ الاشتباك. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية، في ما يرقى إلى شنّ حربٍ على هذا البلد الذي يسعى إلى المعافاة من جروحه، وإعادة بناء ما هدمه النظام السابق. ولم تتوقّف تعدّيات الاحتلال، الجاثم على هضبة الجولان منذ العام 1967، على الجوانب العسكرية، وهي الأشد خطورة، بل امتدّت إلى تدخّلات سياسية، حيث جرى توجيه حملة على النظام الجديد، شارك فيها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يسرائيل كاتس ووزير الخارجية جدعون ساعر، فقد ردّد الأخير معلوماتٍ مغلوطة، في كلمة له أمام اجتماع مجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل في بروكسيل “الإسلاميون يتحدّثون بشكل لطيف، لكن الحكومة السورية الجديدة تنتقم من العلويين وتلحق الأذى بالأكراد”.

مع خطورة التعدّيات العسكرية الإسرائيلية، ومحدودية القدرات الحالية على التعامل معها، إلا أن محاولة اختراق النسيج الاجتماعي السوري تحمل خطورة مماثلة

ولم يكتف بذلك، بل منح نفسه ودولته حقّ التدخل في صياغة واقع سورية ومستقبلها بالقول إن “سورية المستقرّة لا يمكن أن تكون إلا فيدرالية تضم مناطق حكم ذاتي”. وبالإشارة إلى العلويين والأكراد، ثم الدروز، في تصريحات لمسؤولين آخرين، فإن البرنامج الإسرائيلي تجاه سورية بات معلناً، وهو محاولة اجتذاب هذه المكوّنات إلى المدار الإسرائيلي، وتأليبها ضد وحدة البلاد وضد النظام السياسي قيد التبلور، وضد بقية المكوّنات، ما يفتح الباب، وفق هذا المخطّط، لحرمان السوريين من بناء دولة مركزية عادلة ومتطوّرة تضم جميع مكوناتها، وتقوم على المشاركة السياسية بضمانات دستورية وقانونية، وذلك كله إلى جانب إضعاف القدرات الدفاعية والتموضع داخل مناطق واسعة في الجنوب السوري، مع استباحة الأجواء كلما عنّ ذلك لرئاسة الأركان، ومن ورائها المستوى السياسي في تل أبيب، وذلك في نموذج يحاكي التدخّلات الإسرائيلية في لبنان، ابتداء من التموضع في نقاط في الجنوب، على أن التعدّيات على سورية واستهدافها تبدو أوسع نطاقاً، في استغلالٍ مكشوفٍ لحالة الانتقال السياسي في سورية، ولأن وزن هذا البلد أكبر في الميزان الاستراتيجي والجيوسياسي مما هو عليه الحال في لبنان.
ومع خطورة هذه التعدّيات العسكرية، ومحدودية القدرات الحالية على التعامل معها، إلا أن محاولة اختراق النسيج الاجتماعي تحمل خطورة مماثلة، إن لم تكن أكبر، بحيث يتضافر الاختراق العمودي (الحربي) مع اختراق أفقي للنسيج الاجتماعي، ولبُنية الدولة والمجتمع.
ترمي هذه المحاولة إلى تحقيق الأهداف التوسّعية الإسرائيلية على أيدي السوريين أنفسهم، برفع الحواجز ما بينهم، وتمزيق وحدة الوطن والوحدة الوطنية، ووضع أبناء الشعب بعضهم في مواجهة بعض، وتحجيم الدولة المركزية والسعي إلى جعلها مجرّد جسم سياسي بين أجسام وكيانات سياسية متضاربة، برعاية المحتلين الذين استولوا على هضبة الجولان قبل 58 عاماً، وقد شرعوا بالاستيلاء على أراض جديدة في تحدٍّ سافر للسيادة الوطنية السورية، وعبر قرصنة عسكرية مكشوفة يزهو أصحابها باقترافها علناً، وعلى رؤوس الأشهاد.
وواقع الحال أن الاستجابة لهذا التحدّي من الدولة السورية الجديدة، ومعها المجتمع السياسي في البلاد، مؤهلٌة لإحباط الأهداف الإسرائيلية في اجتذاب زعامات المكوّنات وتجنيدها لخدمة هذه الأهداف، إذ إن الوعي الوطني العام راسخ وعميق في رفضه الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يتشاطره السوريون في مختلف مناطقهم، منذ انكشاف المشروع الصهيوني قبل نحو قرن. ولطالما كان الأكراد جزءا من هذا النسيج الاجتماعي والوطني، بل جزءاً من تاريخ المنطقة، حيث ينتسب إليهم صلاح الدين الأيوبي، بطل تحرير القدس من الصليبيين قبل عشرة قرون. وفي التاريخ المعاصر، ثمّة قادة للبلاد ينتسبون للأكراد، كما حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وفوزي السلو ومحمد علي العابد. وبتوسيع دائرة المشاركة السياسية، ومع قرب تشكيل حكومة انتقالية في دمشق، فإن فرص التفاهم بشأن دمج القوات الكردية في الجيش الجديد تصبح أكبر، وخاصة مع التمسّك المشترك بتفادي حلّ النزاعات بالسلاح. ومع الدور المنتظر لرموز سياسية واجتماعية في التقريب، فإن حل هذا الإشكال لن يكون مستعصيا، وبخاصة أن أي تقارب بين الكتلة الكردية والاحتلال الإسرائيلي سوف يؤدّي إلى عزلة سلبية شديدة وبالغة الخطورة لهذه الكتلة، عن دول المنطقة وشعوبها، وحتى عن بقية الأجسام الكردية في هذه الدول.

مسيرات التنديد السورية المتواصلة بالتعدّيات الإسرائيلية نموذج للإرادة الوطنية الجامعة، وخير ما عبّر عنها، مع التسليم بأهميتها غير كافية

وما يصح على الأكراد (أو الكرد حسب تسمية يفضّلها أصحاب هذا الانتساب)، ينسحب على الدروز في جنوب سورية، فهؤلاء يفاخرون بزعامات وطنية، مثل سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط، وليست عروبتهم موضع جدل، كما يضعون أنفسهم وتضعهم الوقائع في الدائرة الإسلامية العريضة، وقد مهّدوا للتغيير في سورية بحراك جماهيري شجاع في السويداء أزيد من عام، ويتشاركون مع دروز لبنان ودروز الجولان في توجّههم العروبي، وإيمانهم الراسخ بعدالة قضية فلسطين. وسبق لوليد جنبلاط أن أعلن استياءه الشديد من التحاق الزعامة الروحية في فلسطين بالدولة العبرية، والتجند في جيش احتلالها، ونشط عشر سنوات على الأقل في حث الدروز على الامتناع عن التجند في جيش الاحتلال، في وقت تواصلت فيه وشائج اجتماعية مع شخصيات درزية من عرب العام 1948. وتثور الحاجة، في هذه الظرف التاريخي الحسّاس، إلى أن تبادر قيادات درزية في سورية، بوزن الشيخ حكمت الهجري، للردّ على التفوهات الإسرائيلية، والتشديد على عروبة الموحّدين الدروز ووحدة سورية أرضاً وشعباً، والمناصرة الثابتة للحق الفلسطيني.
أما العلويون، فقد سارعت تكتلاتهم الاجتماعية لتأييد التغيير ونأت بالنفس عن النظام السابق الذي أفقر موارد مناطقها، ونكّل بالأحرار من أبناء الطائفة. وأيا كانت التيارات السياسية والفكرية في أوساط العلويين، فإن نظرتهم إلى الاحتلال الإسرائيلي هي ذاتها نظرة بقية الشعب السوري في اعتبار الاحتلال الإسرائيلي شرّاً مطلقاً.
وما المسيرات التنديدية المتواصلة بالتعدّيات الإسرائيلية إلا نموذج للإرادة الوطنية الجامعة، وخير ما عبّر عنها، مع التسليم بأهميتها غير كافية، فالأهم أن تلتقي رموز المكونات الاجتماعية تحت مظلة الدولة على صياغة ميثاق وطني يجمعها، وهو ما قد يقتضي، في وقت ما غير بعيد، عقد مؤتمر وطني خاص بهذا الاستحقاق السياسي، على غرار مؤتمر وطني عام شهدته البلاد قبل أكثر من قرن لمواجهة التدخّلات البريطانية والفرنسية لتقسيم سورية الطبيعية. هذا علاوة على الحاجة إلى احتضان عربي واسع لحماية سورية من المخطّط التوسّعي الإسرائيلي.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى