تقويض المساحة المتاحة للمجتمع المدني الفلسطيني

علاء الترتير

تستمرّ منظّمات المجتمع المدني الفلسطيني وفعالياتها في نضالها ضدّ تقويض وتقليص المساحة المتاحة لها، إذ إن انكماش الفضاء المدني وتآكل مساحة الحرّية لهذه المنظّمات والفعّاليات يزيد من صعوبة العمل بفعّالية. ويتجلّى هذا التقويض والتآكل للمساحة المتاحة في أشكال عديدة، بما في ذلك القيود المفروضة على الحركة، والعقبات والأعباء الإدارية، وتجريم منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية من السلطات الإسرائيلية، وحملات التشهير والادّعاءات المغلوطة من المنظّمات الصهيونية المؤيّدة للاحتلال، وتدخّل المانحين الدوليين بدوافع سياسية في عمل المنظّمات هذه، والإمعان في شروط التمويل. وقد أدّت الحرب على غزّة في الأشهر الستة عشر الماضية إلى تفاقم هذه التحدّيات، مع الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في غزّة، والتدمير الواسع النطاق للبنية التحتية، وحالة التشريد الجمعية، ما يجعل من المستحيل تقريباً على بعض المنظّمات مواصلة عملياتها.
في تقرير نشره أخيراً تجمّع من المانحين والمنظّمات التقدمية والمسؤولة في بلجيكا، عاينّا قضية تقلّص المساحة المتاحة للعمليات لمنظّمات المجتمع المدني الفلسطينية، مع التركيز في التحدّيات المنوطة بالسياسات الإسرائيلية، وشروط تمويل المانحين، والعوامل الفلسطينية الداخلية. ولأغراض البحث، ركزّت الدراسة في 11 منظّمة، كلّ منها متخصّصة في مجال محدّد يتعلّق بحقوق الإنسان ودعم المجتمع الفلسطيني. وتشمل هذه المجالات حقوق الأسرى، وحقوق الأطفال، وحقوق المرأة، وحقوق المزارعين، وخدمات الرعاية الصحية، وتعزيز الفنّ والثقافة، والمساعدة القانونية، والدعم الزراعي، والبحث في مجال الحرّية والعدالة. وشملت العيّنة مجموعة من المنظّمات العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وقد جمعت منهجيتنا بين النهجين، الكمّي والنوعي، بما في ذلك الاستطلاعات والمسوحات التي وُزّعت على منظّمات المجتمع المدني المختارة، والمقابلات المعمّقة، ومراجعة التقارير السنوية الصادرة عن هذه المنظمات.

يوفّر “ميثاق غزّة وعهدها” التوجيه لأيّ تدخّل خارجي، فيستند إلى مبادئ وأولويات ووصفات سياساتية يضعها الفلسطينيون

وجدنا أن منظّمات المجتمع المدني التي شملها الاستطلاع والمسح شهدت تقلّصاً في المساحة التي تعمل فيها، وتقييداً وتقويضاً لفعلها، ما أثر في عملها وعملياتها وقدرتها على تقديم خدماتها، إذ تأثّرت سلباً بالتدابير الإسرائيلية، بما في ذلك سياسات مصادرة الأراضي، وقيود الحركة، والتصنيف الممنهج لبعض منظّمات المجتمع المدني “كياناتٍ إرهابيةً”، ما أدى إلى تعطيل تدفّقات التمويل وإغلاق العمليات والتدخّلات، في ذروة الحاجة إليها. السياسات الإسرائيلية، مثل القيود المفروضة على الحركة عبر نقاط التفتيش، وحواجز الطرق، والجدار العازل، تجعل من الصعب للغاية على منظّمات المجتمع المدني الوصول إلى المجتمعات المهمّشة. بالإضافة إلى ذلك، قوّضت، مباشرةً، سياساتُ مصادرة الأراضي، وتدمير البنية التحتية، وحملات الاعتقال، وعنف المستوطنين وإرهابهم، جهودَ التنمية لهذه المنظّمات.
وعلاوة على ذلك، يشكّل الاستهداف الروتيني لمنظّمات المجتمع المدني الفلسطينية من السلطات الإسرائيلية، من خلال مزاعم لا أساس لها من الصحّة بصلتها بـ”الإرهاب”، والاستعانة بالسياقات والمخاوف الأمنية لتبرير مداهمات المكاتب، ومصادرة الأصول، واعتقال الموظفين، يشكّل مظهراً آخرَ من مظاهر التحدّيات التي تواجه منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية. في الواقع، أفادت أغلبية المنظّمات (70%) من المُستطلَعة آراؤهم، بأنها مستهدفة بحملات تشويه وتجريم من المنظمات الصهيونية المؤيّدة للاحتلال، والمدعومة من الحكومة الإسرائيلية، والتي كانت ثاني أكثر المساهمين في انكماش المساحة المدنية الفلسطينية، بعد سياسات وأفعال السلطات الإسرائيلية نفسها. حدّدت نصف المنظّمات المُستطلَعة آراؤها صراحةً منظّمة “إن جي أو مونيتور” (رصد المنظّمات غير الحكومية ومراقبتها) باعتبارها تهديداً للمساحة المدنية الفلسطينية.
وبينما أفادت ثلث المنظّمات التي شملها الاستطلاع بأنها تعرّضت لإجراءات تقييدية من السلطات الفلسطينية، فقد أجمعت منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية على أن التسييس المتزايد، وشروط التمويل من الجهات المانحة، يشكّلان تهديداً كبيراً للمجتمع المدني الفلسطيني ككل. ولم يمتلك سوى عدد قليل جدّاً من الجهات المانحة الشجاعة السياسية، إذ تتجنّب معظم الجهات المانحة المواضيع والمناطق الحسّاسة سياسياً، وتعطي الأولوية، بدلاً من ذلك، لمبادرات المساعدات الإنسانية الأقلّ إثارة للجدال، التي تجعلهم عرضةً للاشتباك مع السلطات الإسرائيلية. وكانت النتيجة أن عديداً من منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية شعرت بأن شركاءها الدوليين قد تخلّوا عنها.
ونتيجة لذلك، أفادت نصف المنظّمات التي شملها الاستطلاع بفقدان التمويل، بسبب التدابير التقييدية بين عامي 2017 و2022، مع ارتفاع النسبة إلى 80%، بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وقد أدّى هذا إلى تحويل الموارد بعيداً من الأنشطة الأساسية والجوهرية لهذه المنظّمات، وخاصّة تلك التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، ما أدّى إلى انخفاض كبير في الخدمات المقدّمة، وفي عدد الموظفين لديها. لذلك، اضطرّت المنظّمات إلى التكيّف من خلال تقليص البرامج، واعتماد نهج اللامركزية لعملياتها، والبحث عن مصادر تمويل بديلة.
ولكي تتمكّن منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية من البقاء والازدهار، على الرغم من تقلّص المساحة التشغيلية، هناك حاجة ملحّة إلى تغييرات عاجلة من المانحين وأصحاب المصلحة والشأن الدوليين، وكذلك داخل قطاع المجتمع المدني الفلسطيني نفسه. إذ يجب أن يصبح التوطين والملكية المحلّية الحقيقية وإنهاء الاستعمار محاوراً لاستراتيجيات المانحين، ويحتاج المانحون أيضاً إلى تقديم الدعم السياسي، وليس الإنساني فقط. إذ إن معالجة تجزئة المجتمع المدني الفلسطيني وتشرذمه قضية ملحّة أخرى يجب التعامل معها. وبالإضافة إلى ذلك، على الجهات المانحة أن تقدّم الدعمين، المالي والسياسي، للمجتمع المدني الفلسطيني، لعكس اتجاه انكماش الحيّز المدني، كما عليها أن تعارض صراحةً، وتواجه بنشاط، أيَّ جهود تهدف إلى تقييد الحيّز المدني الفلسطيني وتقليصه أكثر.
وعلى الفلسطينيين أنفسهم (بما في ذلك منظّمات المجتمع المدني) أن يحدّدوا الأولويات ويأخذوا زمام المبادرة في ثلاثة مجالات حاسمة؛ ضمان الوكالة الفلسطينية (بما فيها الوكالة السياسية)؛ تبني نهج المساءلة أولاً؛ التقدّم بخطىً ثابتةٍ نحو الوحدة، خاصّة عند تطبيع محوهم الجماعي ومناقشته في بعض المحافل الدولية. ومن خلال التنسيق الأفضل وآليات التنظيم الذاتي الفعّالة، تتمكن منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية من قيادة عملية تغييرية تعبّر عن رؤى بديلة ومواجهة ومشتبكة واستشرافية لفلسطين والفلسطينيين، ويمكنها أن توضح بالمثال الحي للفصائل السياسية المنقسمة كيف يمكن إعادة بناء قاعدة قوة محلية لضمان الوكالة الفلسطينية والملكية المحلية الجماعية للحاضر والمستقبل. ولا بد أن تقترن الوكالة الفلسطينية هذه، والتي يقودها مجتمع مدني فلسطيني موحّد، بتبنّي نهج المساءلة أولاً، وآليات المساءلة التي تضع تطلّعات الناس واحتياجاتهم في مقدّمة الأجندات وفي جوهرها، وبالضرورة تتعلّم من إخفاقات الماضي. المساءلة في الواقع عمل سياسي بامتياز، وهذا دور رئيس للمجتمع المدني، خاصّة في الأوقات التي يكون فيها مجرّد الوجود مقاومةً ضروريةً للغاية.

على الجهات المانحة أن تقدّم الدعمَين، المالي والسياسي، للمجتمع المدني الفلسطيني لعكس اتجاه انكماش الحيّز المدني

وأخيراً، ترسم عواقب الحرب على غزّة، والديناميكيات المتغيّرة للمساعدات الدولية، مستقبلاً قاتماً للعديد من منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية، التي تظلّ مساهماتها في المجتمع الفلسطيني حيويةً. واليوم، بينما تستكشف منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية سبل البقاء ومواجهة أسباب (وتأثيرات) انكماش الفضاء المدني وتآكل المساحة المتاحة لها على المستويات العملية والاستراتيجية والسياسية والأخلاقية، فقد حان الوقت لإعلان “ميثاق غزّة وعهدها” الذي يقوده المجتمع المدني الفلسطيني. ويهدف هذا “الميثاق” إلى ضمان الكرامة وتقرير المصير والملكية المحلّية في اليوم التالي لغزّة، بل وما بعد ذلك. ويهدف إلى عكس اتجاهات عقود من اشتراطات التمويل وأطر تقديم المعونة، التي جرّدت الفلسطينيين من الوكالة السياسية وملكية حاضرهم ومستقبلهم.
من شأن “ميثاق غزّة وعهدها” أن يوفّر التوجيه لأيّ تدخّل خارجي، فيستند إلى المبادئ والأولويات والوصفات السياساتية التي يضعها الفلسطينيون أنفسهم، كما أنه سيكون بمثابة ميثاق يعبّر عن رؤية فلسطينية من الفلسطينيين، وللفلسطينيين أنفسهم، للانخراط في تحقيقها، ودعوة الآخرين للالتزام بها والمساهمة فيها. وإذا لم يضمن الفلسطينيون أنفسهم كرامتهم في تنميتهم، فلن يضمنها لهم أحد.

 

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى