
بالحسابات الباردة وبعيداً من العواطف، لا تحتاج السعودية إلى التطبيع مع دولة الاحتلال بعد انهيار محور إيران في المنطقة، وانتهاء نفوذها في سورية تحديداً، وتقلّصه إلى حدٍ بعيد في لبنان. لم يعد في يد لوبيات اليمين الأميركي والصهيوني التي كانت تضغط على السعودية لدفعها نحو التطبيع المجاني أي ورقة مُقنعة لمواصلة الضغط. هذه اللوبيات ومعها الإدارات الأميركية المتعاقبة ونتنياهو وحكومات إسرائيل هي التي تلهث وراء التطبيع مع السعودية، لأن كل هذه الأطراف هي المستفيدة من تطبيع كهذا، والخاسر الأكبر في حالة كهذه هو السعودية. لكن السياسة السعودية والتصريحات الصادرة من الرياض، خصوصاً في أعقاب جنون التصريحات التي يطلقها المراهق الذي يحكم البيت الأبيض، تشير كلها إلى صلابة متواصلة في الموقف السعودي قوّت الموقف العربي برمته، سواء في مسألة الدعوة إلى تهجير الفلسطينيين من غزّة، أو في مسألة الدولة الفلسطينية.
تصبّ التحولات الجذرية أخيراً في المنطقة في صالح السعودية، وفي جردة حساب سريعة يمكن لهذه التحوّلات مجموعة إلى بعضها تعظيم الموقف السعودي في مواجهة ضغوط ترامب المجنونة، سيما أنه خسر عالمياً معظم حلفاء أميركا وأولهم أوروبا الغربية. نظرة أكثر قرباً في هذه التحولات، إقليمياً ودولياً، والترجمة السعودية الدبلوماسية المأمولة لها تفيد بالآتي: أولاً، على مستوى الإقليم نشأ فراغ كبير عقب التراجعات الإيرانية المتتالية في سورية ولبنان، وهو ما أتاح ويتيح مساحات كبيرة للسعودية للتقدّم إقليمياً وشد أطراف المنطقة العربية التي تحتاج قيادة إقليمية عربية. ربما ليس هناك دولة يمكنها التصدّي لهذا الدور سوى السعودية، إن وضعت ذلك هدفاً لسياستها. صحيح أن تركيا تلعب دوراً محورياً في سورية، بيد أن المستقبل السوري محكوم بنطاقه العربي، ومن دون الدعم الخليجي (ومنه السعودي) لن تنهض سورية على قدميها كما تحب وكما جمعياً نحب. معنى ذلك، أن سورية التي كانت قلب الهلال الإيراني الذي أخاف السعودية تصبح تدريجياً في قلب الدائرة العربية التي تبحث عن قيادة إقليمية. وعندما تكسب السعودية سورية، ومع انحسار إيران شرقاً، فما هي حاجتها الفعلية والسياسية والأمنية للتطبيع، الذي سيمسّ من مكانتها وقيادتها الإقليم؟
ثانياً، لا تحتاج السعودية إعلان الحرب على إسرائيل، ولا حتى مناكفة أميركا، بل كل ما تطرحه على الطاولة وتتمسك به هو المبادرة العربية للسلام التي قدّمتها وقادتها عام 2002، والمُستندة إلى الشرعية الدولية وتحظى بتأييد معظم (إن لم يكن كل) دول العالم. ومن المهم والمفيد والمطلوب أن يتبلور خطاب سعودي وعربي جماعي حول تلك المبادرة. ورغم أنها تمثل الحد الأدنى للحقوق الفلسطينية، إلا أنها تفرض موقفاً دبلوماسياً قوياً وجماعياً، ولا يجب التفريط فيه أو التراجع عنه.
الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وقضية فلسطين هو بوابة النفوذ الإقليمي، في الماضي والحاضر
ثالثاً، الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وقضية فلسطين هو بوابة النفوذ الإقليمي، في الماضي والحاضر. ومنذ سنوات الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إلى صدّام حسين، وصولاً إلى إيران، تشير الشواهد التاريخية القريبة والبعيدة إلى أن فلسطين والتمسك بقضيتها والدفاع عنها، حتى لو كان لفظاً وادّعاءً كما في حالات كثيرة، هو ما منح قيادات عربية كثيرة مشروعية إقليمية. إهمال فلسطين والتفريط فيها يقودان إلى العكس. دخلت المنطقة وسياستها وسياسيوها والجميع حالياً مرحلة جديدة تجاوزت إمكانية استخدام فلسطين ورقة دعائية وللتشاوف اللفظي، فقد انكشف هذا الاستخدام إلى درجة مزرية. في الوقت نفسه، هناك إمكانية حقيقية لتسنّم القيادة الإقليمية وتلقي الاحترام من قبل الجميع في العالم العربي إن جرى التقاط القضية الفلسطينية فعلياً وعملياً في هذه اللحظة الفارقة من السعودية، وضمن سياسة ودبلوماسية واضحة وقوية ومُستندة إلى المبادرة العربية.
رابعاً، الإغراءات التي تُقدّم إلى السعودية وكأنها مزايا وعطايا التطبيع، سواء من ناحية عسكرية وأمنية وتكنولوجية، ومنها المساعدة في بناء مفاعلات طاقة نووية سلمية، يمكن الحصول عليها من دول كثيرة، سواء من أوروبا أو الصين. وهذه الأخيرة (الصين) في منحى صاعد متواصل يضع سنة 2049 سقفاً زمنياً أقصى، كي تصبح فيه بكين عاصمة العالم والقوة العظمى الأولى فيه رغماً عن واشنطن وحليفاتها. لماذا يريدون للسعودية أن تحشر ذاتها ومستقبلها مع قوى آيلة إلى الأفول التدريجي؟
فرصة كبيرة للسعودية كي تقود العرب والإقليم، وهي فرصة تتناسب مع الرؤية الحالية لبناء سعودية قيادية في كل المجالات في المستقبل القريب
خامساً، يبقى في الأفق شبح المراهق دونالد ترامب وجنونياته واستهدافه المتواصل السعودية، ضغطاً عليها، واستسخافاً لها، وعدم النظر إليها إلا كحامل شيكات يدفع عند الطلب. ما علينا جمعياً تذكّره أن هذا المراهق سيختفي إلى الأبد بعد أربع سنوات، هذا إن أكمل فترته الرئاسية. ليس ترامب قدراً سماوياً علينا الخضوع له والاستماع لتعليماته وتشكيل الكرة الأرضية والسياسة الدولية والإقليمية تبعاً لنزواته وتفاهاته. تستطيع الحكومات جميعاً، والمنظّمات غير الحكومية أيضاً، شراء الوقت وتقطيعه ريثما ينصرف إلى حيث لا عودة. وقد خلقت سياساته وتصريحاته المراهقة التي تطالب بضم كندا، وقناة بنما، وغرينلاند، والسيطرة على غزّة، وغيرها مناخاً ممتازاً ومواتياً لممارسة رفض إملاءاته وطلباته بالفم الملآن، بأنها تأتي من مصدر غير سويّ سياسياً وربما عقلياً. وقد رأينا الأثر العكسي للجنون الترامبي عالمياً، حيث رفض تصريحاته حتى أقرب حلفاء أميركا، فرأينا المستشار الألماني نفسه، على سبيل المثال، يرفض تهجير الفلسطينيين من غزّة، ويؤكد أنها جزء من الدولة الفلسطينية مع القدس الشرقية والضفة الغربية. ورأينا مواقف كندية وأوروبية وأميركية لاتينية ترفض بقوة مواقف ترامب، فضلاً عما صدر عن الصين على وجه التحديد. عربياً، شهدنا الأثر العكسي للجنون الترامبي في تصاعد نبرة الرفض العربي واستقوائه، حيث الموقفان المصري والأردني اللذين عبّرا برفض وحدّة غير مسبوقة تقريباً لما جاء به صبي البيت الأبيض، إضافة إلى الموقف السعودي الذي وفّر الحماية الإقليمية لموقفيهما، وللمواقف العربية عموماً.
سادساً وليس أخيراً، هناك فرصة كبيرة للسعودية كي تقود العرب والإقليم، وهي فرصة تتناسب مع الرؤية الحالية لبناء سعودية قيادية في كل المجالات في المستقبل القريب. للقيادة الإقليمية مسؤوليات وأكلاف، وفي مقدّمة هذه المسؤوليات فلسطين وقضيتها. وعلى الضد مما تريده واشنطن وتل أبيب، بإمكان الرياض أن تقود دفة المنطقة في معظم الصعد، ومعها فلسطين، وليس على حساب فلسطين. ما تريده لوبيات اليمين المتعصّب في الكونغرس والكنيست تحييد السعودية تماماً في المدى القصير، وإحباط أي تطلع سعودي إلى بناء كيان إقليمي متماسك على المدى البعيد. يعرفون تماماً أن السعودية ستخسر الكثير، خصوصاً على صعيد صورتها ورأسمالها السياسي في العالمين، العربي والإسلامي، إن استُدرجت إلى تطبيع مجاني. والكلام الناعم والمُنعم والمديح النفاقي الذي يوجهه رموز اليمين المتعصب بهدف توريط السعودية بات مكشوفاً ومرذولاً، خصوصاً أن كبير الكهنة نتنياهو لم يستطع كبت رغباته الدفينة وتعصّبه عندما هاجم السعودية أخيراً، وطالبها باستقبال الشعب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية في أراضيها!
المصدر: العربي الجديد