
لم يصدّق الناس تصريحات الرئيس الأميركي، ترامب، عن خطته المزعومة لغزّة. كأن الرجل يهذي حقيقة، حين يصرّح بأن هذا المكان الصغير الذي تحوّل إلى ركام غدا لا يُطاق، ولا يمكن أن يعيش الناس فيه. وأفضل حلّ إخلاؤه من أهله وتهجيرهم نحو بلدان عربية مجاورة، بغرض إعادة إعماره منتجعاً سياحياً يطيب فيه العيش. ولا شك أنه، وهو يهذي، ينطلق من قيم أميركية خالصة. ثمّة عوامل شخصية عديدة، تتعلق بتنشئة ترامب وشخصيته تجعله مرشّحاً لأن يقول ذلك كله وأكثر. وأعتقد أن الأمر يعود إلى بعضٍ من مخيال ثقافي أميركي تغلغل في أفكار أوساط اجتماعية عديدة. تماماً مثلما تفضح أفلام الويسترن الشخصية الدفينة للأميركي، فإن تصريحاته لا تبتعد كثيراً عن ذاك المخيال الذي صاغ علاقة الأميركي بالأرض.
يتوهّم الأميركي عموماً أن تلك القارّة التي يقطنها، ومنها أن بلدهم الشاسع كانت “خلاءً”، أرضاً قفراً إلى أن جاءها الأوروبيون، رجال بيض متحضّرون، وقاموا بإعمارها، يلتبس عند ذلك وفي جلّ اللغات المستمر بالمحتل. تقوم هذه السردية على ازدراء أرض ما قبل الاكتشاف، واعتبارها موحشة ومتوحشة. لذا أجيز دخولها. تسوّغ هذه الحكايات التي تحوّلت، في أحيانٍ كثيرة، إلى رواية وطنية، يتم تنشئة الأطفال عليها إلى ما يشبه قصة نجاح إنسانية باهرة، أقحمت مناطق عديدة، تسمّى لاحقا العالم الجديد، إلى “الحضارة”. وقصة الحضارة هذه لا يُدرَك مدلولها إلا إذا جرت شيطنة السكان “الأصليين”، واعتُبِروا وحوشاً يجوز قتلهم أو نفيهم اذا ما تردّدوا أو قاوموا… لقد أباد المعمّرون الأوروبيون شعوباً بأكملها، علاوة على تبديد ثراء روحي وثقافي غني: تراث، هويات مختلفة، حضارات متعدّدة أُبيدت بشكل كامل إلا من نجا أو تبقى، فقد جرى إدماجه في قاع المجتمع، تم ربطهم إلى سلسلة محكمة من الاستهلاك، حيث تعرّفوا إلى الكحول والمخدّرات. … وتذكر دراساتٌ عديدةٌ في الأنتروبولوجيا هذا بشكل مفصل.
اعترفت كندا في السنوات الأخيرة بالجُرم الذي اقترفته في حقّ السكّان الأصليين، وهي التي بنت لهم “جيتوات” يزورها السياح ليروا بأم أعينهم “تحفاً” بشرية في متحف الإبادة، تلك التي ظلت متوسّلة بأشكال مختلفة.
من دون الخوض في مقارنات جوهرانية توحي بتفوق عرقي إثني ما، وتجعل العرب “ملح الأرض ونباتها”، فإننا نقرّ بأن أشياء تظل فينا مختلفة كلما كانت علاقة العرب عموماً بالأرض. يحفل الشعر العربي القديم والنقوش النادرة، وحتى كتب التراجم والسير، بما يفيد عن تلك العلاقة الساحرة والغامضة بين العربي وأرضه. ثمّة “حمّى” ما ظلت تسري في وجداننا. يترحل العربي أو يُنفى ويظلّ مشدوداً إلى أرضه، إنها هويته المتلاشية. الشتات العربي يظل “مجذوباً” إلى أرضه.
مفاتيح العودة ليست من معدن، بل من رموزٍ لا يستطيع من نشأ على العد والحساب فحسب أن يفقه سرّها
وشكّلت الأرض عقدة المحنة الفلسطينية. تدور سرديات عديدة حول إخفاق تاريخي في ترتيب علاقة الفلسطيني بأرضه. ويبدو أن الملحمة التي تجري صياغتها حالياً هي بصدد تصحيح تلك العلاقة، وتفنيد كل السرديات المحرفة والمبالغة حول التباسات “ضياع الأرض وفقدانها”.
لا أدري هل استطاع ترامب أن يفكّ شفرة تلك الأمواج الهادرة، وهي تعود إلى شمال قطاع غزّة؟ لا أعتقد ذلك، فالرجل لا يعي تماماً تلك الهرولة وذلك الحج المهيب إلى “الركام” المهيب. يقول عديدون من الأهالي إنهم عائدون إلى ديارهم، حتى ولو كانت أكواماً من الحجارة، أو خيمة تذروها الريح. يعلم الجميع أن الإعمار لن يأتي قريباً. ومع ذلك يعودون إلى ديارهم المتخيلة التي رسموها في ذاكرتهم. ومفاتيح العودة ليست من معدن، بل من رموزٍ لا يستطيع من نشأ على العد والحساب فحسب أن يفقه سرّها.
تنشر الصحافتان، الأميركية والإسرائيلية تباعاً، ما يبدو أنها “جذور” خطة ترامب لتحويل قطاع غزّة إلى منطقة استثمار عقاري وسياحي. وتهدف هذه التسريبات إلى حلّ مسائل قانونية ومالية عديدة تتعلق بحق الملكية وغيره. وهي لا تختلف عن أي مبرّرات كولونيالية في أواخر القرن التاسع عشر. تنبني الرؤية على اعتبار بلدانٍ عديدة مجرّد مناطق جغرافية يمكن تحويل سكانها عبر مختلف “أشكال الترانسفير” الراهن.
ما علاقة ترامب بهذا كله، وهو الأميركي القاطن بعيداً عن غزّة بما يزيد على عشرة آلاف كيلومتر. هل يكفي أن نصدّق شغفه بالمال والربح والاستثمار؟ لا أعتقد، فالأمر دوماً، حسب ما تفيد به التسريبات الإعلامية تلك، مخطّط له، ويستند إلى “عقيدة”، أي إلى فكرة تعود إلى تلك الخلفيات القديمة التي حرّكت كل موجات الاستعمار في عصور الحداثة وما بعدها. وتقوم على ترحيل الوحوش والبرابرة وإبعادهم إلى “الربع الخالي” من العالم، حتى ولو على جثثهم. إنها الإبادة العارية. تكلمت غزّة، غير أن ترامب لن يقدر على فهم ما قالت، ولكنه سيذعن لإرادتها.
المصدر: العربي الجديد