فور الإجهاز على محاولة انقلاب رفعت الأسد الذي كان يقود “سرايا الدفاع”، وهذه يمكن عدّها جيشاً خاصاً، على أخيه الرئيس حافظ الأسد، في خواتيم 1983، زار وزير الدفاع في حينه، مصطفى طلاس، وحدات الجيش السوري، ليشرف على تسطير رُقَعٍ كان يجري التوقيع عليها بدماء الضبّاط والجنود على شعار “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”. … كانت تلك الواقعة واحدةً من محطّاتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ في مسار ترسيم الجيش في سورية حامياً شخص الرئيس ونظامِه وعائلته. وذلك مع تفشّي فسادٍ في هذا الجيش، بدأ مع دخول الأخير لبنان في 1976، حتى بلغ ذرىً مهولة، جعلته يحرزُ السمعة السيئة التي انحلّ، عملياً صباح 8 ديسمبر، ورسمياً مساء 29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) وهو عليها. وليس عسيراً على من عايَن البهجة الشاسعة بين غالبيّة السوريين بقرارات السلطة القائمة في دمشق، المعلنة ذلك المساء، أن يرى قسطاً باهظاً من الفرح بواحدٍ من هذه القرارات، أي حلّ الجيش. … من دون أن يُكترَثَ بنواتج متوقّعة، أو غير مستبعدَة، لهذا الأمر، من قبيل ما ستصير عليه آلافٌ عديدةٌ من المجنّدين والعساكر وصغار الضباط، وقد فقدوا مورد عيشهم. فضلاً عن ألف سؤالٍ وسؤالٍ عن مدى قدرة قيادات الفصائل المسلّحة التي تتولّى بسط الأمن في البلاد منذ خلع نظام الأسد على بناء جيشٍ جديدٍ، مهنيٍّ، مدرّبٍ، مؤهّلٍ، على جهوزيةٍ في تأديته الوظائف المنوطة بأي جيش، تأمين الحدود وحماية البلاد من الاعتداءات الخارجية، وقادرٍ على تحديث كفاءاته وتنويع موارد تسليحه.
يُطرح هذان السؤالان، وغيرُهما، من دون إغفال كل أسباب الغضب المشروعة جداً لدى عموم السوريين من جيش بلادهم الذي حاربهم بوحشيةٍ، واستأسد على الناس في أريافهم وبلداتهم، وواجه الثوّار والمنتفضين، بعد مارس/ آذار 2011، بثأرية، إذ يكفي لأيّ عابرٍ في داريا (مثلاً) في ريف دمشق أن يقع على عقيدةٍ معاديةٍ ضد الشعب السوري متوطّنةٍ في هذا الجيش. يُطرح السؤالان، لعلّ ثمّة فسحة، ولو ضيّقة، لشيءٍ من الأخذ والردّ، أو بعض الجدل، بشأن ما إذا كان في الوُسع الاستعاضة عن فكرة الحلّ بفكرة إعادة الهيكلة، بمعنى “غربلة” هذا الجيش، المتداعي في الأول والأخير، وتعيين البريء من غير البريء فيه، وإبعاد الضبّاط الذين كانت العسكرية بالنسبة إليهم من وسائل النفوذ والاستقواء والسرقة واحتراف الرشاوى، وغير ذلك من صنوف اهتراءٍ مريعٍ جعلت جيش سورية، “العقائدي” كما وُصف في واحدٍ من أطواره في ستينيات القرن الماضي، عامل هدم للدولة السورية التي تعيّش مَن شايعوا بشّار الأسد على أوهامٍ بشأنها، وابتذلوا أنفسهم في رطانتهم عن وقوفهم إلى جانبها، فيما هم كانوا ينتصرون للأسد، ويتعامون عمّا ظل يقترفه هذا بالدولة التي ظنّوا وجودَها.
ولكن، لا بأسَ، ونحن على بهجتنا العظمى بتحرير سورية من حكم آل الأسد، من تمييزٍ بين أجهزة دولةٍ وأجهزة نظام، وإن اختلطت هذه بتلك، وإنْ يستعصي في كل واحدةٍ تبيّن المساحات لكلٍّ من تلك وهذه. لا بأسَ من القول إن في تسريح نحو 300 ألف مجنّد وضابط، من دون تعيين النابل والحابل فيهم، شيء من الإطلاقية التي قد تأتي بما لا يحبّه السوريون لا سمح الله. ومن التعسّف أن يُحاضِر واحدُنا في أهل مكّة الذين هم أدرى بشعابها، وأن يَغفل عمّا كان عليه الجيش المنحلّ من حمولاتٍ طائفيةٍ ومناطقية، ومن الجهل والجهالة أن يتسرّع قارئ الحالة السورية بأخْذهِا إلى مماثلةٍ مع تلك العراقية، فيَفترض أن كارثة بول بريمر في حلّه الجيش العراقي تُشابه قرار السلطة في دمشق حلّ الجيش السوري. ليست الأمور أبداً على هذا النحو، وإنما هو المُرتجى أن يذهب السوريون إلى النحو الذي يأملون، والذي يكون فيه جيش بلدِهم مغايراً لما كان عليه الجيش الذي لا يأسَفون على ذوبانه، حيث كانت القيادات المنتفعة، الفاسدة، التي ارتبطت ببطانة الرئيس الفارّ، وحيثُ الجيشُ على هامش فرقةٍ رابعةٍ وحرس جمهوري ورثا سرايا الدفاع سيئةِ الصيت، تقوى عليه أجهزة المخابرات والبوليس الدموية بالإمكانات والرعاية والمزايا.
القول، أو قُصاراه هنا، إن قرار السلطة في دمشق حلّ الجيش قد لا يكون في محلّه تماماً، ربما كان الأدْعى أن يسبقه درسٌ أوفى، وإحاطةٌ أكثر دراية بنواتجه. ربما كان الأسلمَ غربلةٌ تُهيكِلُه بما يُؤتي حسن المقاصد والنيّات. والله أعلم.
المصدر: العربي الجديد