في واحدة من أبرز مقالات الطنطاوي في رسائله “في سبيل الإصلاح” كانت دعوته الشباب إلى القرى التي كانوا يهربون منها، فقال: “يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها، يا أيها الشباب الذين يحبّون بلادهم ويريدون صلاحها: إن الشباب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً طيباً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً. إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب وذكائهم ومعرفتهم ونشاطهم”.
لامست صرخاتُ الطنطاوي اليوم مَسمعي من جديد، وكأنه يصرخ بنا وقد انفتحت سوريا كلها أمامنا؛ حتى نُسرع إليها، بعيداً عن تفضيلاتنا الشخصية وأهوائنا؛ لأننا نحبّ بلادنا ونريد صلاحها.
نعم؛ من الطبيعي أن مَن رجع فوجد بيتَه كومة من الركام، مثلي، أن يهرب من بلدته القُصير مثلاً إلى مركز المدينة في حمص إذ لا بيت بقي له، فضلاً عن العمل والمستقبل الأبعد. ولكنّ ما لن يكون طبيعياً، وعلينا الاستفادة من صرخات الطنطاوي له هو أن نترك ريفنا؛ أن نترك بلداتنا المدمرة ونختار الأحسن لنا والأكثر راحة لعيالنا.
مَن ينتظر تجهيز بيته كما كان قبل الثورة، أو ليصبح كالبيت الذي سكنه في إسطنبول وعينتاب أو برلين وأمستردام أو الدوحة والرياض فهذا يبرّر لنفسه عدم العودة.
بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة!
بعد يومين من تحرير القُصير فوجئت بأخواتي وقد حملْنَ خيامهن وأيتامهنّ ونزلن من عرسال إلى بلدتنا، وهي مدمرة بنحو 80 في المئة، فلما ناقشناهن كان الجواب: نحن من ١٢سنة بالخيام في أرض غريبة؛ فما دامت أرضنا تحررت فنسكن بخيامنا فيها معزّزين مكرّمين.
كانت بكلمات عامية يسيرة؛ لكنها أبلغ من خطبة لواصل بن عطاء، وحقاً وجدتهنّ في ركام البيوت سترنها بشوادر الخيام وأدواتها، ومثلهن كثيرون نزلوا من مخيمات عرسال ليستقروا في بيوت مدمرة؛ ولكن مع عزّة وكرامة.
فمَن ينتظر تجهيز بيته كما كان قبل الثورة، أو ليصبح كالبيت الذي سكنه في إسطنبول وعينتاب أو برلين وأمستردام أو الدوحة والرياض فهذا يبرّر لنفسه عدم العودة. وكلنا أمل أن ننهض ببيوتنا المدمرة فتصبح كالتي سكناها في تركيا وألمانيا والخليج، ولكن هناك كنا غرباء مهما حملنا من وثائق تلك الدول، وهنا نحن أصحاب البلد؛ وإن كنا نضحك لقول السابق ونحسبه ضرباً من الوهم:
لَبيتٌ تخفق الأرواح فيه أحبّ إليّ من قصرٍ مُنيف
ومع ذكر الطنطاوي ورسائله في الإصلاح أستحضر صرخة أخرى تناسب السوريين الذين ما زالوا يدفعون كل تعبهم وقد يستدينون فوقها ليدفعوا في تركيا وغيرها، إذ يقول تحت عنوان مميز “بطون جائعة وأموال ضائعة”: “…فإلى متى نضيّع أموالاً نحن اليوم أحوج إليها من كل يوم مضى؛ لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال”؟!
الأرض المعجونة بالدم!
الركام الذي نجده لبيوتنا ليس للحمل والنقل سريعاً؛ ففيه ذكرياتنا لعقود، وحكايات الأمهات والجدّات، وعرق الآباء والأجداد. ثم أليست هذه البيوت النُّصُب التي عليها أُريقت دماء الأحبة واستشهدوا دوننا ودونها، فاختلط ترابها بدمائهم حتى فاحَ عبيرها؟!
فاصبِروا لا تنقلوا ركام بيوتنا بعيداً حتى ينتهي مني الحداد، وتشبع النفس من عبق الكرامة المعجون فيها!!
وإن كان المعرّي قد قال بالجملة عن الأرض والقبور في رائعته “غير مُجدٍ في ملّتي واعتقادي…”:
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
فلا نبالغ إذا قلنا: نعتذر… ونستغفر أننا نمشي على أرضنا السورية؛ وهي المعجونة بدماء شهدائنا من إخواننا وأحبتنا، وإن كان نظام الأسد المجرم لم يترك لبعضهم بقايا في هولوكوست صيدنايا وغيره، حيث كان يطحن الجثث ويذيبها بكل سادية.
لسنوات نردّد الدعوات للداخل والعمل في سوريا؛ فكان عذر بعضهم أننا لا ندخل الشمال ونكون في غير مناطقنا، فماذا بقي بعدُ والبلد كلها لنا وتنادي بنا أن هلمّوا … هلمّوا.
الديمغرافية السورية ما تزال في خطر!!
هُجّرنا من مناطقنا ثلاث عشرة سنة، اختلّت فيها التركيبة الديمغرافية للمجتمع كثيراً؛ فإيران كانت الراعي الأهم للتهجير، واشتغلت على التغيير السكاني بعد ذلك بتجنيس عناصر من ميليشياتها، وبإسكان آخرين من التابعين لمشروعها؛ فلن نكون “طائفيين” إن قلنا: حمص من بعد التهجير حتى التحرير تغيرت خريطتها تماماً، فصار عدد العلوية يقارب عدد السنّة، وكانوا قبل ذلك لا يزيدون عن 10% فيها، وهي نسبة دخلت في حمص منذ السبعينيات كما حكى كمال جنبلاط عن خطة حافظ الأسد في ذلك. وليس خارج هذه الخطة الاستهداف الممنهج من حزب الله الذي كانت له السطوة في حمص والقصير للدوائر العقارية والنفوس في حمص وريفها، حتى انتهينا في التحرير إلى آلاف الوثائق المدمرة في هذه المناطق، كما ذكر الدكتور الأعمى محافظ حمص في الإدارة الجديدة.
فكيف يرجع التوازن الديمغرافي إلى المنطقة ما لم يرجع أهلها ويُساعدوا في عودتهم؛ فمن دون عودة التوازن هذا إلى ما كان قبل الثورة، على الأقل، لا يمكن بناء سلم مجتمعي، لأن المزاج سيبقى بين منتصر وخاسر. فهلمّوا إلى مدننا وبلداتنا المدمّرة حتى نُعيد إليها التوازن، فتعود الحياة من جديد، ويُبنى السلام المجتمعي.
مع ملاحظة أن مشروع إيران في سوريا وإن كُسر بالتحرير؛ فإن آثاره المديدة في نفوس ملايين السوريين الذين كانوا تحت سيطرة الأسد وإيران لابد من خطط لعلاجها، فلا يأخذنا الغرور بالنصر وانهزام إيران أن نزدري ما فعلت في سوريا لعقود وضاعفت منه خلال سنوات الثورة.
ماذا بقي من الأعذار؟!
لسنوات نردّد الدعوات للداخل والعمل في سوريا؛ فكان عذر بعضهم أننا لا ندخل الشمال ونكون في غير مناطقنا، فماذا بقي بعدُ والبلد كلها لنا وتنادي بنا أن هلمّوا … هلمّوا.
وكان عذر آخرين: لا ندخل البلد وكلها سواد؛ وهذا عذر قد سقط أيضاً، وكل العقلاء يرون كل الألوان في فسيفساء لم تشهدها سوريا منذ عقود، ففيها “الأسود” والأحمر وعديم اللون والطعم والرائحة.
ولعل من الشباب مَن يتعذّر أنه لا يمكنه أن يعود بالكليّة؛ بل يمكنه أن يأتي في الصيف فيعمل خلال شهرين أو ثلاثة متطوعاً في التعليم أو الدعوة أو البناء، فهذا خيرٌ كذلك وبركة؛ وما أجمل أن تُنظّم من كل جالية أنشطة تطوعية كهذه يتناوب فيها الشباب على السفر إلى سوريا في برامج موحّدة تختزن الجهود وتنظّمها من دون تضييع أو تكرار.
هلمّوا إلى البلد يا شباب!
فكل ما فيها ركام؛ ركامٌ من البنيان، وركامٌ من الإنسان، ولن تنهض من جديد ويرجع إليها مع الحيوية والشباب حتى نعطيها من شبابنا وحيويتنا.
وفي آخره رسالته قال الطنطاوي _وبقوله أقول_: “إنّ المروءة والواجب الوطني، والدِّين والإنسانية، وكل مبدأ مقدّس يدعوكم إلى مساعدة الفلّاح [سوريا] أيها الشباب. فيا أيها الشباب: إلى القرية [إلى سوريا].. إلى القرية [إلى سوريا]!! لا؛ لست شيوعياً، ولا اشتراكياً، ولكني إنسان، وإني مسلم!”
المصدر: تلفزيون سوريا