الإسلاميّون بين الاختزال والاستئصال

أحمد طه

ثارت تساؤلات عديدة عقب إطاحة نظام بشّار الأسد في سورية، بشأن طبيعة التحوّل الذي طرأ على هيئة تحرير الشام، جاء هذا مصحوباً بقدرٍ من الشكوك والهواجس والمخاوف، بشأن طبيعة النظام الجديد، سيّما مع تصدّر الإسلامييّن المشهد، في وقتٍ تقاطرت وفود دبلوماسيّة غربيّة على دمشق، لاستكشاف طبيعة المستجدّات وسبر نيات القيادات الجديدة، والحصول على تطمينات بشأن مستقبل الانتقال السياسي في سوريّة. … في هذه الأثناء، ظهرت أصوات في الفضاء الإعلامي تبنّت خطاباً سقط في الاختزال والتعميم، جاء في سياق موجة تشكيك، تجاه التحوّل الكبير الذي طرأ على الخطاب الأيديولوجي والسياسي لهيئة تحرير الشام، التي تُصنّفها واشنطن “مُنظّمة إرهابيّة”، ووصفت هذه الأصوات التحوّل بأنّه مجرّد خداع تكتيكي، وقناع زائف سيسقط بعدما تتمكّن “الهيئة” من السيطرة الكاملة على مقاليد السلطة. بيْد أن تلك الموجة شابتها أخطاء منهجيّة، ونظرة اختزاليّة جنحت إلى التعميم والتسطيح وإصدار أحكام مُطلقة بوضع الإسلامييّن جميعاً في سلّة واحدة، وربطهم في كتلة مُصمَتة صمّاء، وهي تشبه، إلى حدّ بعيد، موجة مشابهة انطلقت عقب نجاح حركة طالبان في دخول العاصمة الأفغانيّة كابول نهاية صيف 2021 ، فقد ذهب بعضٌ إلى وصف طالبان بـ”الوهّابيّة”، وجنح آخرون إلى وضع “طالبان” وتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) في خانة واحدة، من دون أي فارق بينها، والزعم أنهم مجرّد مسميّات مختلفة لمنهج متطرّف واحد، ينهل من نبع الحركات الجهاديّة التكفيريّة العنيفة التي لا تعرف سوى تكفير المخالفين، وتتخذ من العنف منهجاً وسبيلاً لتحقيق أهدافها، وهو كلام يستبطن رؤية اختزاليّة، ونزعة استئصاليّة في آنٍ معاً.

حركة طالبان، وإن كانت ذات بنية أيديولوجيّة صلبة، ومنزع فقهي مُتشدّد، إلا أنها لم تكن يوماً ضمن الحركات الجهاديّة التكفيريّة ذات الطابع “الأممي”. وحتى عندما دخلت في تحالف مع تنظيم القاعدة لم تتبنَّ أجندتها الجهاديّة، وهي تعود في أصولها إلى المدرسة الديوبنديّة الهنديّة، وتتبنّى المذهب الحَنفي فقهيّاً، والقول إنها “وهّابيّة” يدلّ على جهل مُطبق، فـ”طالبان” ليست من أتباع المذهب الحنبلي من الأصل، كما أن الحركة لم تكن يوماً مُصنّفة ضمن التنظيمات الإرهابيّة أميركيّاً.

لتوضيح الصورة، يتعيّن التطرّق إلى موقف “داعش” من دخول حركة طالبان كابول، بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وموقف هذا التنظيم أيضاً من سقوط نظام بشّار الأسد على يد هيئة تحرير الشام. ومعروفٌ أن “داعش” ناصب طالبان وهيئة تحرير الشام العداء، وتبنّى تجاههما خطاباً تكفيريّاً، رغم اختلاف السياقَين بين أفغانستان وسورية، ودخل معهما صراعاً دمويّاً عنيفاً ما زال قائماً.

ناصب “داعش” طالبان وهيئة تحرير الشام العداء، وتبنّى تجاههما خطاباً تكفيريّاً

بعد أيّام من دخول “طالبان” كابول، أصدر تنظيم داعش بياناً عبر العدد 300 من صحيفة “النبأ” تحت عنوان “وأخيراً رفعوا المُلّا برادلي”، أعلن فيه موقفه من الانسحاب الأميركي وعودة “طالبان”، و”الملّا برادلي” اسم لشخصيّة وهميّة ذكره أحد المسؤولين الأميركيين للقيادي في تنظيم القاعدة، أنور العولقي، في فترة سجنه، حين قال العولقي إن المسؤول أخبره بصناعة أميركا “ملّا”، ليس مثل زعيم “طالبان”، الملّا عمر، بل ملّا يُنفّذ مصالح أميركا، والمقصود بالاسم الاستهزاء بالملّا عبد الغني برادار القيادي في حركة طالبان، والإشارة حملت طعن تنظيم داعش الواضح في “طالبان” عبر اتهامها بالعمالة، وتوعّد البيان الحركة بمزيد من العمليّات الإرهابيّة، وأكّد استمرار استهداف المصالح الأميركيّة والغربيّة، ودعا عناصرها إلى “الاستتابة”، والانضمام إلى “داعش” بسبب المخالفات الشرعيّة للحركة، وانحرافها عن “الخطّ الجهادي” حسب زعم البيان.

وفي سياق مُغاير بعد أيّام من سقوط نظام الأسد، أصدر تنظيم داعش بياناً عبر العدد 473 من صحيفة “النبأ” بعنوان “تدجين وتجنيد”، وفيه “وصلت أساليب “مكافحة الإرهاب” إلى مرحلة مُتقدّمة، يتمّ فيها احتواء وتدجين “جهاديين سابقين” للقيام بالمهمّة بما يضمن مصالح النظام الدولي الكُفري، ويشبع رغبة المفتونين بالحُكم. رأينا ذلك في نُسخ عديدة أبرزها حكومة طالبان، وأحدثها حكومة الإنقاذ، وكلاهما دخل القصور الرئاسيّة بموافقة الجهات المعنيّة”. واختُتِم البيان بهجوم حادّ على قائد الإدارة السوريّة الجديدة، أحمد الشرع، ووصفه بأنّه “مهووس السلطة واللقطة”، وامتدّت مظلّة الهجوم إلى من وصفهم البيان بـ”رعاة النظام الجديد” و”دستورهم الجاهلي” المُزمَع تفصيله قريباً ليناسب مقاس سورية المستقبل، مع قرب أفول حدود “سايكس – بيكو” وبروز حدود “نتنياهو – ترامب”، حسب زعم البيان.

من الواضح أن تنظيم داعش اتخذ الموقف نفسه تجاه حركة طالبان، ثمّ هيئة تحرير الشام، والقاسم المُشترك في بياني “داعش” يبدو واضحاً، فقد تمثّل في اتهام الطرف الآخر بالعمالة وموالاة الغرب، واستبطن تكفيره بعد تخلّيه عن “الخطّ الجهادي” طمعاً في السُلطة. ومن الثابت أن هيئة تحرير الشام لم تقم بمراجعات فكريّة شاملة لأفكارها وممارساتها في السنوات الماضية، تؤصّل لتحوّلها الفكري والأيديولوجي ومنهجها الجديد، وهي خطوة مهمّة ستأتي لاحقاً. وفي المقابل، من الواضح لكلّ ذي عين تُبصر أن تحوّلاً كبيراً قد طرأ على خطابها في الفترة الأخيرة، يستدعي وقفة موضوعيّة للبحث في أسبابه، بعيداً عن نزعات الاختزال والتشكيك.

للسياق التاريخي والواقع المعيش دور كبير في دفع عوامل الاعتدال أو التطرّف إلى التصدّر، في أيّ تيّار فكري أو سياسي

غنيٌ عن البيان إن للسياق التاريخي والواقع المعيش دوراً كبيراً في دفع عوامل الاعتدال أو التطرّف إلى التصدّر، في أيّ تيّار فكري أو سياسي. وهنا نستحضر ما كتبه الراحل طارق البشري “كلّ تيّار فكري أو سياسي إنما يحتوي على إمكانات غلوّ وإمكانات اعتدال، وأن الواقع المعيش أو الظرف التاريخي، أو موقف جماعة مُعيّنة ورؤيتها فيما يتضمّنه هذا التيار، إن أيّاً من ذلك هو ما يُنعش أيّاً من إمكانات الغلوّ أو الاعتدال أو يضمرها”. والتيّار الإسلامي، شأنه شأن أيّ تيّار فكري آخر، يحتوي على عوامل انفتاح واعتدال، وعوامل تطرّف وانعزال، والواقع المعيشي هو الذي يتكفّل بدفع أيّهما إلى صدارة المشهد، فمناخ الانفتاح القائم على الاحتواء والحوار من شأنه إنعاش وتنشيط عوامل الانفتاح والاعتدال، وإخماد وتثبيط عوامل التطرّف والانعزال. وفي المقابل، يأتي مناخ الانغلاق القائم على القمع والرغبة في الاستئصال، ليكون من شأنه إنعاش وتنشيط عوامل التطرّف والانعزال، وإخماد عوامل الانفتاح والاعتدال وتثبيطها.

لا يعنينا هنا مدى اتفاق أو اختلاف أي رأي/ تحليل مع “طالبان”، أو هيئة تحرير الشام أو غيرهما من الحركات والجماعات، سواء أعلى من شأنها وكال لها المديح، أم شدّ عليها النكير وكال لها النقد، وسواء اعتبرها مسوّغاً للتقدّم أم جاذباً للتخلّف، وسواء كان مؤيّداً رؤيتها أم رافضاً لها ولأفكارها إجمالاً وتفصيلاً. ما يعنينا مدى الالتزام بالضوابط المنهجيّة المُتعارَف عليها، التي تبتعد عن الاختزال، فالأمر يخرج عن ثنائيّة التحسين/ التقبيح، أو القبول/ الرفض، وحتى إذا ما خرج شخص أو فصيل من دائرة الاعتدال، فالتشدّد يختلف عن التطرّف، كما أن التشدّد درجات، والتطرّف مستويات، ووضع الجميع في سلّة واحدة خطأ منهجي جسيم، ينسف أي تحليل من أساسه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى