سؤال السوريين بغالبيتهم ومساحة حواراتهم المفتوحة منذ سقوط النظام إلى اليوم، هو المؤتمر الوطني، ومعه عاد التباين السوري المعتاد سواء بمدته وأحقية التمثيل فيه والدخول في مرحلة انتقالية سريعاً وبين أن يكون المؤتمر مفتوح زمنياً يكون في نهايته الوصول إلى دستور سوري حديث.
في البدء، انعقاد مؤتمر سوري هو مطلب وضرورة سوريّة منذ كان النظام قائماً، وكان غرضه المعلن أن يكون سورياً بلا تدخّلات خارجية يفضي إلى الدخول في مرحلة انتقالية سياسية تستجيب مع طلبات الشعب السوري.
فرغم انعقاد عشرات المؤتمرات السورية في الخارج ومنها في الداخل، كان الحائل أمام الوصول إلى غايته وجود النظام المعطل لأي منتج سوري، فيما اليوم وقد ذهب النظام فهل يمكن لأي مؤتمر أن يحقق هذا الغرض؟ أم أننا كسوريين، وكما في تاريخ الثورات، سنبقى على تبايننا المبني على احتكار التصور والرؤية لمستقبل سوريا بلون صاحبها وحسب!
بينما فكرة أن المنتج المرتقب، هو أن تكون تعاقداً سورياً يكتنف التعدد ويخرج بصورة عمومية توافقية عن المستقبل والدستور وآليات الحكم، وهذه أبداً لن تكون حكراً لجهة وحيدة مهما امتلكت من مثالية الفكرة أو القوة.
محددات أولية
التعاقد المجتمعي مرهون بالإرادة العمومية كما عرفتها الثورة الفرنسية، بعد طول نزاع على السلطة والاستفراد بها سواء عسكرياً أو سياسياً أو بالشرعية الثورية التي تقوم على فرض إرادة على حساب أخرى.
وحتى ندخل في صلب الواقع السوري الحالي، يمكننا وبمراجعة سريعة طالما قدمنا بها النقد والتحليل، اعتماد بعض مؤشرات الواقع الحالي كمحددات قائمة:
- الواقع السوري متعدد سياسياً ودينياً، واليوم بلا جيش، يحتكم لتنوع القوى العسكرية الفصائلية.
- الاستقرار السوري مطلب عربي ودولي، فرغم إسقاط النظام سورياً، لكن سوريا لليوم عقدة تشابك مصالح إقليمية ودولية.
- الاعتدال وعدم التفرّد في الحكم والشأن العام ضرورة سوريّة لتجنّب أخطاء العقود الماضية من فاشية النظام، وأيضاً تجنب أخطاء المعارضة السورية في التنافس على المواقع والتمثيل.
- من المهم جداً التمسك بالدور الإداري للسياسة وشؤون الحكم، وبالضرورة الابتعاد عن الغلو الأيديولوجي سياسياً ودينياً، والعمل على قاعدة أن السياسية هي فن إدارة المجتمع حوكمياً لا الهيمنة عليه سلطوياً.
من الطبيعي أن تكون هذه المحددات محط جدال عام، قد يضاف إليها وقد يختلف حولها، لكن فيما لو استعدنا فكرة المؤتمر الوطني فسنجد هذه المحدّدات مقدمات أولى لنجاحه والوصول لمبتغاه، ما يعني بالضرورة العمل وفق قواعد الشراكة العمومية السورية وصولاً للإرادة العمومية وهذه تختلف جذرياً عن الإرادة الفردية لشخص أو جهة عسكرية أو حزب ما، فتلك تعاقد توافقي وهذه قوة هيمنة وحسب.
المؤتمر وسياق انعقاده
ينبغي لأي مؤتمر أن تتشكل له لجنة تحضيرية كشرط لازم لنجاحه، ويفترض أن تكون هذه اللجنة ذات مصداقية ومسؤولية تاريخية، ودورها تيسير الحوار الوطني بحيادية، وألا يتولّى أعضاؤها مناصب سياسية أو حكومية في المرحلة الانتقالية، وبعده لدورة برلمانية سياسية واحدة، حتى لا يتم تجيير المؤتمر ونتائجه لصالح القائمين عليه.
كذلك، مع ضرورة أن تتمكن اللجنة التحضيرية من التواصل مع السوريين بتمثيلاتهم السياسية والأهلية، ووضع قواعد ومعايير المشاركة في المؤتمر بحسبما نفترضه أنه مؤتمر لوضع سوريا على سكة السلامة والأمان والبناء:
- التمثيل الوطني السوري للكتل السياسية المدنية السورية العابرة للجغرافيا والمحليات.
- تمثيل المجتمع المحلي بتنويعاته الدينية والأهلية، وقواه العسكرية المحلية المتنوعة.
أن يكون تمثيل النساء والشباب السوري بالحالتين لا يقل عن النصف.
- تمثيل المثقفين والباحثين ورجال الاعمال السوريين كإحدى أهم ركائز التوافق الوطني والقدرة على صياغة خلاصته.
عندها يمكن تعريف المؤتمر بأنه صاحب الشرعية الوطنية العليا، إذ إنه يعتبر تمثيل أولي للأمة السورية ومصدر سلطاتها الأولى، وبالضرورة يحمل بين طياته مفهوم فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي يفترض أن تنتج عنه.
والسلطات المقترحة هي:
- حكم انتقالي يتضمن حكومة انتقالية مصغرة ومحدودة الصلاحيات وذات وزارات سيادية (الخارجية والمالية والدفاع والداخلية)، بحيث تضبط التوجه السوري العام ناحية الاعتدال والسلام والتنمية، فيما تبقى الوزارات الأخرى ذات طبيعة إدارية تقوم على خدمة المواطنين.
وهنا يمكن اقتراح أحد الخيارين: إما انتخاب مجلس رئاسي انتقالي سياسي عسكري، أو انتخاب رئيس حكومة مؤقت، لنظم العلاقة بين الوزارات السيادية وآليات العمل الإداري في الحكومة عموماً.
- التوافق على إعلان دستوري مؤقت يحكم العلاقة بين مؤسسات الحكم الانتقالي والمواطن وييسر العمل الإداري والسياسي خلالها.
وهذه يكتنفها خيارات سورية عدة كالعودة إلى دستور 1950 أو الاستفادة من دستور 1920 أو إمكانية صياغة مبادئ دستورية عامة تمثل خطوط عامة لإدارة المرحلة انتقالية لا تسمح بالوقوع بأي من المحاذير أعلاه.
- هيئة قضائية مستقلة تعمل على تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تلوثت أيديهم بالدم السوري وبالفساد المالي والسياسي والإداري في ظل نظام الحكم السابق وإحالتهم لمحاكم عادلة، وعليها إنصاف السوريين المتضررين من تلك المرحلة وجبر ضررهم، سواء بالتهجير أو الفصل التعسفي أو الملاحقات الأمنية وغيرها، وتكون نتيجتها الوصول لإعلان مصالحة وطنية عامة وتحقيق العدالة والابتعاد على النماذج القهرية الثأرية عامة.
- لجنة تأسيسية منتخبة للعمل على صياغة دستور سوري جديد يمثل تطلعات السوريين وإرادتهم، يكون محط استفتاء شعبي في نهايته، والتي عندها يمكن الإعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية والتهيئة لانتخابات تشريعية بعدها.
مؤتمر وطني بهذا التصور يمكن أن يُجدول بمراحل زمنية محدّدة:
- مرحلة تحضيرية تبدأ مع الإعلان عن أسماء أعضائها وأوراق عمل المؤتمر وخطته.
- مرحلة تأسيسية بحضور كل المدعوين له بنسب محددة ويكون المؤتمر منعقداً لمدة شهر على الأقل وبرعاية أممية عربية تنتهي بتشكيل السلطات أعلاه.
- يعتبر المؤتمر منعقداً دورياً بيوم كل شهر وعند الضرورة لمتابعة عمل الحكومة والهيئة القضائية وأعمال اللجنة الدستورية، بمدة وسطية بين العام للعامين.
بالتاريخ لم يتشكل مفهوم الدولة نصياً وكفى، بل بتحقيق مصالح العام الشعبي، وتجاوز أخطاء ومعوقات وكوارث الحكم السابق، وعند الحديث عن الدولة ندرك جيداً أنها المؤسسات العامة التي لا تميز بين مسلم أو مسيحي، عربي أو كردي، علماني أو ماركسي أو ديني، بل تنظر للجميع على أنهم مواطنون أحرار ومسؤولون أمام القانون.
وبالضرورة من المتوقع أن تفشل بعض الجولات خلال المؤتمر، خاصة وما يشوب الواقع من معوقات وصفت أعلاه، لكن الخروج من مأزقنا العام يجب أن يكون محفزاً على النجاح والوصول للتوافق الوطني.
وهذه مسؤولية وطنية هدفها جمهوريتنا الثالثة منتصرة لضحايا الثورة الجسام ولكلفتها البشرية والمادية الضخمة، وهي أيضاً منعطف تاريخي في مستقبل سوريا والمنطقة برمتها تحاكي تجربة الثورات الأوروبية حين تمكنت فرنسا من تحقيق الدولة العصرية الحديثة والانتصار للحريات والحقوق وسيادة القانون كغاية وطنية عليا.
لشعب الصين حكمة تاريخية تحكي عن أنّه إذا انكسرت لديهم مزهرية وتشظت قطعاً، كانوا يعيدون لحمها قطعة قطعة مضيفين إليها لمستهم الفنية والروحية صبراً، وهم يدركون أنها لن تعود كما كانت، لكن يؤمنون بضرورة إعادة إحيائها بأن يضيفوا إليها من ذواتهم مادياً ومعنوياً، وأظنها النكهة السورية الواجبة اليوم، وهذه مسؤولية أولاً وعقلانية ثانية وبوابة تعاقدية على المصلحة والإرادة العمومية نتيجةً.
المصدر: تلفزيون سوريا