ترجع النظريات الدينية “الثيوقراطية” أصل السيادة ومصدر السلطة إلى الله، فهو وحده صاحب السيادة وإليه ترجع السلطة الآمرة، إحدى هذه النظريات تقوم على إضفاء الطبيعة الإلهية على الحكام، فالحاكم طبقاً لهذه النظرية إله يعيش وسط البشر ويحكمهم.
وتعتبر نظرية الحق الإلهي المباشر أن الحاكم مختار بطريق مباشر من الله لمباشرة شؤون السلطة، أما نظرية الحق الإلهي غير المباشر فترى أن الأفراد هم الذين يختارون الحاكم، ولكنهم يختارونه وفق العناية الإلهية التي توجه إرادة الأفراد وجهة معينة وترشدهم إلى اختيار الحاكم الذي ترتضيه العناية الربانية.
من الثيوقراطية إلى النيوثيوقراطية
مع قيام الثورة الفرنسية ظهرت للعلن نظرية “سيادة الأمة”، ثم ما لبثت أن ظهرت “نظرية سيادة الشعب” كتطور بارز للفلسفة السياسية الهادفة لرفع الحصانة المطلقة عن الحكام.
ورغم أن نظرية سيادة الشعب أصبحت هي السائدة في الدول الديمقراطية ما زالت معظم الأنظمة السياسية في البلدان النامية تستند بأساليب مواربة إلى النظريات الدينية، فالنظام السوري -على سبيل المثال- لجأ إلى أشد هذه النظريات تخلفاً، وهي نظرية “الطبيعة الإلهية للحكام”، حيث تم تطوير هذه النظرية لتجعل من الحاكم إلها في الأرض إلى جانب إله السماء، وهذا أحد التعديلات على النظرية الأم.
أما التعديل الثاني؛ فهو بعدم التصريح بألوهية الحاكم، وإنما يتم ذلك من خلال الإفهام والإيحاء شديد الوضوح، وهذا ما يمكن أن نسميه -تجاوزاً- “النيوثيوقراطية” أو “الثيوقراطية الجديدة”.
ومع اندلاع الثورة السورية واحتدام الصراع بين السلطة والقوى الثورية، أصبحت القضية أشد وضوحاً، فالموجودون في المناطق التي يسيطر عليها النظام، فرضت عليهم طقوس للعبادة تماماً كما في كل الديانات.
“عبادة مستفزة”
اتخذت طقوس عبادة “رأس النظام” شكلين: الأوّل منها؛ يهدف إلى النجاة من العقاب وإثبات الولاء، وتتمثل طقوسه بكتابة منشور أو التعبير عن إعجاب أو وضع صورة على إحدى الصفحات الشخصية وما شابه ذلك.
أمّا الشكل الثاني من طقوس العبادة؛ فهو بالإضافة إلى طقوس الشكل الأول؛ يقوم العبد الصالح بالتطوع بأعمال إجرامية تخدم السلطة، كالقتال وكتابة التقارير واحتراف مهنة التطبيل لنظام الإجرام، وما شابه ذلك، ومؤدو هذه الطقوس يطمحون إلى الثواب إضافة لاتقاء العقاب.
بالمجمل؛ كانت ممارسة هذه الطقوس مستفزة للطرف الآخر الذي اتسمت ردود أفعاله بالغضب والاحتقار، وهو ما أوصل الطرفين إلى مرحلة أصبح فيها الحقد المتبادل هو سيد الموقف.
ولعل هذا أحد أهم أهداف النظام من تكريس هذا السلوك، فالخوف من أحقاد الطرف الآخر تدفع بالإنسان للخوف من انتصاره، وتدفعه إلى التمسّك بجماعته وموقعه ضارباً عرض الحائط بكل ما له علاقة بالحق أو القواعد الأخلاقية، وهذا ما يفسر ثبات الأغلبية من مؤيدي النظام على موقفهم، رغم ما حل بهم من فاقة وعوز وقهر، ورغم ما شاهدوه من استهتار بمشاعرهم وكرامتهم.
الاستدارة و”التكويع”
بعد السقوط المدوي لنظام الطغيان حاولت قيادة العمليات العسكرية تكريس قيمة التسامح، وأصدرت عفواً مبهماً غير واضح أثار ردات فعل غاضبة في الشارع الثوري، وهو ما دفع بقيادة العمليات لاتخاذ إجراءات أظهرت من خلالها أن العفو يشمل الفئة الأولى من العباد، أولئك الذين اقتصرت عبادتهم على اتقاء شر الحاكم المؤله.
ودونما فاصل زمني كاف؛ انخرط بعض هؤلاء بين جموع المحتفلين بسقوط النظام بطرق مختلفة، بعضها كان مستفزا لجمهور الثورة الذي سارع إلى إطلاق مصطلح “المكوعين” لوصف هؤلاء في محاولة للجمهم وتحقيرهم في نفس الوقت.
و”التكويع” يقصد به تغيير الموقف، أو الاستدارة، وبلغة أدق تحوّل الشخص من موقع التشبيح بمدلوله الواسع إلى موقع الثائر، وربما شمل مَن كانوا يسمون بالرماديين.
وهؤلاء “المكوعون الحربائيون”، عدا عن تذاكيهم المستفز؛ هم قادرون -في حال نجاحهم- على تخريب كل شيء له علاقة بالحرية والكرامة، بل هم قادرون إفساد السلطة من خلال ثقافتهم، ثقافة العبيد..
بالمحصلة، أثار الموضوع جدلاً واسعاً وكان مدخلاً للذباب الإلكتروني الذي استعاد نشاطه في إثارة الفتنة وتعميق الخلاف بين أبناء البلد الواحد، وهؤلاء مع بقايا أبواق النظام لديهم مهارة عالية بتطبيع كل شيء، فهم حتى موضوع المعتقلات التي هزت ضمير العالم حاولوا تسخيفه بالقول: كل الأنظمة السياسية لديها سجون، واعتمادا على هذه المهارة وصلوا إلى نتيجة مفادها: كلكم “مكوعون”.
“المكوع الحربائي”
لدى سؤال عينة من السوريين: أيهما يستفزك أكثر المكوع أم غير المكوع؟ كانت الإجابات في غالبيتها العظمى: “المكوع”، ومعظمهم أردف يكفي أن غير المكوع لديه مبدأ.
من هنا يتبادر للذهن سؤال: هل حقاً أن غير المكوع صاحب مبدأ؟ فكل الدلائل تشير إلى عكس ذلك، بل تشير إلى أن هؤلاء على درجة من الوقاحة والنرجسية المستفزة التي تستوجب المساءلة القانونية.
في المقابل؛ يفترض الواقع المأساوي لحياة السوريين في المناطق التي كان نظام الطغيان يسيطر عليها أن نصدق أن هؤلاء فرحوا بانتصار الثورة، وأن من حق هؤلاء التعبير عن سعادتهم بهذا الحدث التاريخي.
من هنا يمكن القول: إنّ الإشكال نشأ نتيجة للتوسع باستخدام المفهوم، فمصطلح التكويع كان يقصد به في البداية شريحة ضيقة من السوريين، أولئك الذين يمتلكون مهارة الحرباء، وبالتحديد أولئك الذين أوجدوا لأنفسهم مكانة في ظل نظام الطغيان، ومن ثم بدؤوا التحضير لتبوء مكانة مماثلة في ظل النظام الجديد.
وهؤلاء “المكوعون الحربائيون”، عدا عن تذاكيهم المستفز؛ هم قادرون -في حال نجاحهم- على تخريب كل شيء له علاقة بالحرية والكرامة، بل هم قادرون إفساد السلطة من خلال ثقافتهم، ثقافة العبيد.
إذاً؛ فغير المكوع أسقط عن كاهل الثوار عبء إبعاده وترك لهم مطلق الحرية في نعته وتوبيخه، أما “المكوع الحربائي” فهو مصدر خطر على المجتمع وعلى الثورة، خاصة وأن لدى هؤلاء مقدرة على التملق والتزلف والانبطاح لا يستطيع أن ينافسهم بها أحد، والأخطر من ذلك أن هذا النوع من الأشخاص هو النوع الذي يفضله أصحاب المناصب وأصحاب النفوذ، فمعظم هؤلاء لا يرفض أن يعبد.
المصدر: تلفزيون سوريا