ليست الثورة حدثاً عادياً عابراً في تاريخ الشعوب، بل هي حدث تاريخي مفصلي، وفعلٌ احتجاجي عارم، له خلفيات عدّة وتداعيات جمّة، ولكلّ لحظة ثورية فواعلها وتجلّياتها، وطُرق انتظامها المخصوصة. وتعدّ ثورة تونس (2010/ 2011)، لحظةً تاريخيةً نوعيةً، وحدثاً استثنائياً، جسّدا قدرة الجموع المنتفضة من التونسيين على امتلاك الشارع، ونقض النظام الاستبدادي، وكسر حاجز الخوف من سطوة الدولة القامعة. وقد أدّت اللحظة الثورية إلى هروب الرئيس/ الديكتاتور زين العابدين بن علي وأسرته، وسقوط كثير من الأقنعة في علاقة بنظامه السلطوي، وانتهاكه حقوق الإنسان، ونهبه والمقرّبين منه المال العام. وقد أنتج الحراك الثوري عشرية انتقالية/ ديمقراطية، تباين الدارسون في تقويم أدائها ومُخرَجاتها. ومن المهمّ بعد 14 سنة من اندلاع اللحظة الثورية التونسية استذكار أبرز سماتها، حتّى تظلّ الثورة حيّةً في النفوس، وحتّى لا يطويها النسيان في زمن غلب عليه انتشار الشعبوية، والشمولية، وتزييف الوعي الجمعي. فقد تميّزت الثورة التونسية بخصائص مهمّة هي بمثابة العلامات التمييزيّة الواسمة لها. ولعلّ من أهمّ خصائصها طابعها المدني/السّلمي، وعمقها الشعبي، ورمزيّة شعاراتها، وعدم ارتهانها لقيادة زعيم معيّن.
امتازت الثورة التونسية بأنّها ثورة مدنية، غير مسلّحة
امتازت الثورة التونسية بأنّها مدنية، غير مسلّحة، فالثوّار لم يأتوا على ظهور الدبابات، ولم يستقووا بالخارج، ولم يستعيدوا الشارع والفضاء العام من النظام الحاكم بقوّة البنادق، بل بقوّة التظاهر الجمعي في الساحات والميادين العامّة. ولم ينزلق المحتجّون إلى ارتكاب أعمال عنف واسعة ضدّ المؤسسات السياديّة والأملاك العامّة والخاصّة، وتبّنت مبدأ المقاومة اللاعنفية للأجهزة النظامية القامعة، رافعة شعار “سلميّة.. سلميّة”. وأحرج ذلك النّهج في الاحتجاج النّظام الحاكم الذي واجه الحشود المنتفضة سلميّاً بالقوّة الغاشمة، ففقد بذلك صدقيّته وشرعيته في الوعي الجمعي التّونسي، ولدى الرّأي العام الدّولي. وكان واضحاً أنّ الحراك الثّوري لم يقبل بتسليح الاحتجاج، ولم ينخرط في جدليّة الردّ على العنف بالعنف المضاد، بل قابل كثير من المحتجّين رجال الشّرطة بالورد والفنّ والقصائد المعبّرة والأيادي الممدودة والصدور العارية. ودلّ ذلك على رقي الفعل الاحتجاجي/ الثّوري وحِرَفيّته، وعلى انتشار الثقافة السلميّة لدى الجموع المدنية الثائرة، وساهم ذلك كلّه في تأليف القلوب حول الثّورة التونسية، فاكتسبت تعاطفاً واسعاً في الداخل والخارج.
وتميّزت الثورة التونسية بامتدادها داخل الاجتماع التونسي بشرائحه المختلفة، فلم تكن ثورة طبقة معيّنة، ولا فئة عمريّة محدّدة، ولا صوت حزب دون غيره، ولا لسان منطقة جغرافيّة دون سواها، بل كانت ثورة جامعة انخرط فيها شيب وشباب، ونساء ورجال، من طبقات مختلفة ومن محافظات متعدّدة، ومن أطياف سياسيّة وأيديولوجيّة متباينة. وبدا جليّاً أنّ الغضب من النظام الحاكم وسياساته القامعة قد كان أعدل الأشياء قسمةً بين المحتجّين، فقد جمعهم رفض النظام السلطوي، ووحّدتهم الرغبة في إحداث تغيير جذري يخرج بالبلاد من الأحادية إلى التعددية، ومن الدكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن أتون القمع إلى رحاب الحرّية، ومن إسار الظلم إلى رحاب دولة الحقّ والواجب. وقد ساهمت الحاضنة الشعبية في تأمين الانتشار الواسع لخطاب الثورة في مختلف المناطق، حتى إن المحتجّين نجحوا في زمن اللحظة الثورية في تحييد أنصار النظام الحاكم الذين غابوا عن المشهد في ظلّ تصاعد شعبية الثورة وامتدادها في الناس. وكان واضحاً أن تماسك الصفّ الثوري في بداياته قد حفظ الفعل الاحتجاجي من التشتت. فاستراتيجية رصّ الصفوف تحت راية الوطن، ورفض دعاوى العصبية الجهوية والحزبية أو الطبقية أنتجا وحدةً احتجاجية شعبية صمّاء، صعب على أعوان النظام الحاكم وقتها اختراقها. فغلب في مُستهلّ الثورة التآلف على التنافر، والتواصل على التناحر. وبدت شعارات الثائرين متناسقةً، متناغمةً، قائمةً على نقض النظام الشمولي، والتمرّد على سياساته السلطوية، والشوق إلى تأسيس دولة مدنية تعدّدية، تضمن الحياة الكريمة لعموم المواطنين. ومن ثمّة فإن العمق الاجتماعي للثورة قد كان إكسير اندلاعها، وصمودها واستمرارها إلى حين نجاحها في إطاحة نظام الدكتاتور زين العابدين بن علي.
والملاحظ في الثورة التونسية أنها قد عوّلت على تعديد الشعارات وصياغتها بطريقة ذكية، جمعت بين اختصار الملفوظ وجزالته، وإخراج الشعار بطريقة فنّية قوامها السجع، الذّي يشنّف الآذان ويهزّ القلوب، ولغة مباشرة صريحة خالية من التكلّف والإطناب والتراكيب الاستعارية الملغّزة. فكان للشعار دور تعبيري مهمّ في تعميم الوعي بحتمية الثورة، وتحفيز الناس على الالتحاق بصفوف المحتجين. والملاحظ أنّ محمول الشعار قد تطوّر على التدريج من لحظة اندلاع الثورة، مروراً بانتشارها في المحافظات، وصولاً إلى هروب بن علي. ففي البداية ظهرت شعارات من قبيل “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” و”شغل حرّية كرامة وطنية”، و”يا حكومة عار عار والأسعار شعلت نار”، وهي شعارات صريحة في التذمر من غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية، والمطالبة بتأمين حقّ المواطنين عموماً، والشباب خصوصاً، في العمل باعتباره حقّاً يكفله الدستور التونسي والمواثيق الحقوقية الدولية. فكان الخطاب الشّعاراتي صريحاً في إدانة هيمنة الزمرة الحاكمة على السلطة والثروة وسرقتها المال العام (عصابة السرّاق). وبدا الوصل جليّاً بين الشّغل والحريّة والكرامة، ذلك أنّ حصول المواطن على موطن شغل هو شكل من أشكال إثبات وجوده وتحقيق كرامته.
وبالتوازي مع انتشار المدّ الاحتجاجي رفع المتظاهرون شعارات من قبيل “خبز وماء وبن علي لا”، “بن علي يا جبان الشّعب التّونسي لا يُهان”. وفي ذلك إعلان صريح لتحدّي الجموع الثائرة سطوة الرئيس وغطرسته. فقد بدا جلياً ضيقهم بقبضته الحديدية وهيمنته على الشأن العام واستئثار أسرته وأعوانه بالثّروة. لذلك خيّروا العيش بخبز وماء فحسب لقاء رحيله. فرغم خطاباته المتتالية وقوته المدجّجة بالسلاح، لم يطمئن المحتجّون لوعوده، ولم يرضخوا لتهديداته، وأخبروا العالم أنّهم كسروا جدار الصمت والخوف، وأنّهم لا يخشون وعيده وحزمه في مكافحة المدّ الاحتجاجي. وفي ظلّ استمرار القطيعة بين رأس الدّولة والمحتجّين، احتشد المواطنون الغاضبون يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 في شارع الحبيب بورقيبة وأمام مقرّ وزارة الداخلية، رافعين شعار “الشعب يريد إسقاط النّظام”، وهو شعار جريء، صريح، مباشر، عبّر بامتياز عن رغبة المتظاهرين في تغيير النظام الحاكم وإطاحته. وقد نسبوا الرغبة في إسقاط النظام إلى الشعب بما هو كتلة جماهيرية وازنة، وقوّة احتجاجية ضاغطة قرّرت في حشد جمع الآلاف عزل الرئيس. وتأكّد ذلك مع رفع شعار “ارحل” (Dégage)، وهو فعل أمر صادر على وجه الاستعلاء من فخامة الشعب إلى شخص الرئيس، الذي تهاوت شرعيته وتقلّصت شعبيته، وأمسى من الماضي في نظر جمهور المحتجّين. وتجلّى ذلك في رفع شعار “انتهت اللعبة”. وأخبر ذلك بنهاية حقبة بن علي شعاراً وواقعاً لا محالة، فقد فرّ الديكتاتور عشيّة ذلك الاحتجاج الشعبي، التاريخي، العارم، المهيب.
كانت الثورة التونسية بلا رأس، بل كان الاحتجاج تعبيرياً شعبياً مارسته وقادته الجموع الغاضبة من سياسات النظام الحاكم
ويلاحظ الدارس سيرورة الثورة التونسية أنها كانت بلا رأس، وبلا قائد ملهم، فلم يكن الفعل الاحتجاجي بإيعاز من شخص معيّن، تميّز بقوّة كاريزميّة أو بخطاب جذّاب يؤلف الناس حوله، بل كان الاحتجاج عملاً تعبيرياً، شعبياً، عارماً، مارسته وقادته الجموع المهمّشة والغاضبة من سياسات النظام الحاكم، ولم تكن في الحراك الاحتجاجي لزعيم بعينه قوّة إقناعية أو طاقة تعبيرية أو أبّهة اعتبارية أخلاقية يمتاز بها عن غيره، ويوجّه من خلالها الجموع نحو أهداف محدّدة فداءً له أو عملاً بتوجيهاته، فقد كانت الثورة فعلاً تشاركيّاً بامتياز، لم ينهض به فرد أو زعيم ، بل كانت فعلاً احتجاجياً نهض به كلّ مواطن من موقعه تعبيراً عن وجوده، وإقراراً برفضه الموجود وشوقه إلى المنشود. وكان لافتاً أنّ زعماء الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وعلماء الدين، ورموز النُّخَب المثقّفة لم يضطلعوا بدور قيادي مؤثّر في الحراك الاحتجاجي، بل اكتفوا بمتابعته وتأييده أو اللحاق به من دون أن يتصدّروه أو يحدّدوا وجهته. ومن ثمّة فقد هشّمت الثورة التونسية ما يُعرَف بصورة الزعيم الملهم، والقائد الأب في التاريخ الثوري العربي قديماً وحديثاً.
ختاماً، كانت اللحظة الثورية التونسية لحظةً حالمةً، واعدةً، وكانت على درجة عالية من التمدّن، والانضباط، والانتشار في الشارع. لكنّ الانتقال من لحظة الثورة إلى زمن بناء دولة تعدّدية، ديمقراطية، تقدّمية، عادلة، كان انتقالاً متعثّراً، أربكته عدّة عوائق ذاتية وموضوعية، لعلّ أهمّها عدم إحداث قطيعةٍ نظريةٍ وإجرائيةٍ مع النظام القديم، وعدم ترسيخ الثقافة الديمقراطية، وتهميش الشباب الثائر، وعدم تفعيل العدالة الانتقالية وتوظيف الإعلام للتشويش على الثورة، وعدم رفدها بانتقال اقتصادي ناجع وتنمية شاملة، وانخراط الفاعلين السياسيين في دوّامة الإقصاء والإقصاء المضادّ على خلفيات صراعات هووية ومصلحية وفئوية ضيّقة، متناسين تطلّعات الناس إلى الكرامة والعدالة والرفاه، فساهم ذلك في انتكاسة الثورة التونسية، وصعود فلول الثورة المضادّة، وإعادة إنتاج الدولة الشمولية/ الأحادية في نحو ما.
المصدر: العربي الجديد