عن البلاد التي تنسج سلامها بصبرها

وفاء علوش

مثل عادتها تبرع سوريا في جمع المتناقضات لكنها تبرع أيضاً في تقديمها بحلّة عصية عن المقارنة بغيرها من الحالات.

في كل بيت سوري اليوم ربما فرح ومأتم في آن، لكن هذه البيوت ببساطة تحيا في الشعورين معاً قصة ألم تتوق إلى الأمل، وكل نفس يتألم يتبعه صوت ينادي بالتسامح والمصالحة ويرغب ويصلي ألا يتكرر هذا الواقع مرة أخرى، وألا يعيشه أحد من السوريين بعد الآن.

في تعريفه الجامد يعد السلم الأهلي حالة من التعايش السلمي بين أفراد المجتمع بمختلف مكوناته الثقافية، الاجتماعية، والدينية، حيث يسود الاحترام المتبادل والتفاهم، وتُحل الخلافات بطرق سلمية بعيدة عن العنف أو النزاعات، ويبدو أن كل ذلك كان في حالة غياب عن المجتمع السوري في زمن حكم الأسدين بسبب التشوه المجتمعي والقيمي الذي كان سائداً.

لا يعد المجتمع السوري في جوهره عنيفاً وينزع أبناؤه إلى السلم ولا يميلون إلى ثأر أو تحقيق انتقام وتطبيق عنف على الآخر، لكن ذلك يبدو من الصعوبة بمكان بسبب ما خلفه النظام الأسدي من حالة عنفية في المجتمع، إذ جرّد السوريين من إنسانيتهم وجعلهم يضطرون إلى التعامل بقانون الغاب وهذا ما اضطر كثير منهم إلى التكشير عن أنيابه وسن مخالبه من أجل حماية وجوده من أي تهديد محتمل.

يحتاج السوريون اليوم الوصول إلى حالة من التشافي والتعافي ليس من أجل تحقيق السلم الأهلي فحسب، بل إننا بحاجة إلى علاجات مستمرة ومديدة، من أجل مقاربة ما يحدث في دواخلنا من مشاعر متناقضة للسلام النفسي، كي نستطيع الاندماج في الحياة والعالم الخارجي من دون رضوض داخلية وخارجية..

ها قد مر شهر اليوم ولم نر ما توقعه العالم من انتشار حالات عنف وانتقام، ولم نشاهد برك الدماء في الشوارع مثلما توقع العالم لنا وربما مثلما خطط، لقد استطاع السوريون بصبرهم وحلمهم احتواء الأمر والسيطرة على كثير من مشاعر الغضب والاحتقان المخفية وهذه تحسب لهم لا عليهم.

لا يمكن أن تكون أي حالة مثالية بكل تأكيد، وقد ظهرت حالات شوهت الصورة المثالية التي تمنى السوريون استمرارها كي لا تنغص عليهم فرحاً انتظروه سنيناً، وعلى أن ما حدث كان متوقعاً ويعد أمراً طبيعياً بعد سنوات من العنف الذي امتصه السوريون في أجسادهم وتوارثوه فيما بعد، لكن تلك الحالات كانت في حدودها الدنيا ولم تشكل حالة سورية عامة قط.

يحتاج السوريون اليوم الوصول إلى حالة من التشافي والتعافي ليس من أجل تحقيق السلم الأهلي فحسب، بل إننا بحاجة إلى علاجات مستمرة ومديدة، من أجل مقاربة ما يحدث في دواخلنا من مشاعر متناقضة للسلام النفسي، كي نستطيع الاندماج في الحياة والعالم الخارجي من دون رضوض داخلية وخارجية ومن دون عطب نفسي مزمن.

في مقاربة بسيطة لمحددات السلم الأهلي في مجتمع ما، مثل العدالة الاجتماعية وتقبل الآخر ووجود قوانين عادلة وتعليم جيد ونشر ثقافة التسامح مع وجود تنمية اقتصادية واجتماعية، نجد أن تلك العوامل لم تكن موجودة على الإطلاق في حقبة الحكم الأسدي، وعلى الرغم من الخوف الذي عاش مع السوريين وتعايشوا معه إلا أن ذلك لم يجعل من الأرض السورية جاذبة للعنف أو مصدّرة له.

ليس السلم الأهلي مجرد غياب للنزاعات، بل هو بناء ثقافة تُشجع التعايش والتعاون في ظل بيئة يسودها السلام، ولأن الحالة السورية تتسم بخصوصية عالية تجعل منها تحت المجهر العالمي بعد سقوط النظام، من المفيد ألا نتعامل معها على أنها حالة خالصة التعقيد ومن غير المقبول اعتبارها قنبلة موقوتة تحتاج رعاية وعناية، بما يتيح لأذرع المجتمع الدولي بالتدخل من أجل فرض وصاية معينة واستنساخ نماذج مشوهة في المنطقة.

يتطلب تحقيق السلم الأهلي مقاربة شاملة تعتمد على معالجة الأسباب الجذرية للنزاع، وبناء أسس للتعايش السلمي، بتعزيز العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين، لكن ذلك لا يمكن أن يتقدم قيد أُنملة من دون الاعتراف المجتمعي بالمظالم وردها وتعويض الضحايا، حتى نستطيع صناعة سلم أهلي حقيقي غير مزيف أو معجون بالاحتقان وجاهز للانفجار في لحظة أو أخرى، يتبع ذلك بناء ثقة بين الأطراف يستطيع بعدها السوروين تجاوز الماضي المؤلم.

ليس علينا أن نعوّل في مثل هذه الحالة سوى على السوريين فهم وحدهم من يستطيعون ردم الهوة بين بعضهم بعضاً، ووحدهم قادرين على تضميد جراحهم والنهوض مجدداً من أجل بناء المؤسسات وصناعة نظام سياسي يليق بتاريخ الثورة السورية وتضحياتها، وبناء دولة قانون ومواطنة تجمع السوريين تحت سقفها، في حين تتولى الدولة مسؤولية تحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز التماسك الاجتماعي عن طريق برامج التوعية ودعم الفئات المهمشة بمنحها صوت للفئات التي تضررت أو كانت مهمشة خلال الحرب.

تعد عملية تحقيق السلم الأهلي عملية طويلة تحتاج إلى الصبر والتعاون بين جميع الأطراف، فالمفتاح الأساسي هو بناء مستقبل مشترك يحترم الحقوق ويضمن العدالة والمساواة للجميع، أما المجتمع الدولي الذي يتربص اليوم من أجل مد أذرعه على شكل ضمان لحماية السوريين، فلا مطلب للسوررين منه سوى المراقبة والدعم من دون فرض وصاية بذرائع واهية تحقق مطامع خاصة به.

من نافل القول إن أي محاولة لتجاوز مراحل تحقيق السلم الأهلي قد تجعل الوضع في سوريا معقد للغاية في حال غياب العدالة الانتقالية التي تعد أساس السلام، وهو ما يلزم اتباع استراتيجيات متعددة الأبعاد تأخذ بعين الاعتبار التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية.

وعلى الرغم من صعوبة تطبيق العدالة الانتقالية في الوقت الراهن، إلا أن هناك خطوات أولية يمكن اتخاذها بتشكيل لجان محايدة لتوثيق الانتهاكات تعمل على جمع الأدلة وتوثيق الجرائم من دون انحياز لأي طرف.

ولكن الاعتراف العلني بالمظالم ومعاناة الضحايا يبقى هو الخطوة الأهم نحو بناء الثقة، يماثله في الأهمية توفير ضمانات لعودة اللاجئين بشكل آمن وكريم إلى مناطقهم، وتحقيق خطاب وطني جامع يركز على الهوية السورية المشتركة.

لا بد هنا أيضاً من تمكين المبادرات المحلية بدعم المنظمات المحلية التي تسعى لتعزيز التعايش وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، وتحقيق برامج المصالحة المجتمعية بإطلاق مبادرات محلية تعمل على جمع المجتمعات المتناحرة وتخفيف الاحتقان تدريجياً.

بالتزامن مع إجراءات تدعم الفئات الأشد تضرراً وتأمين عودة النازحين واللاجئين عودة آمنة وكريمة، مع السعي الحثيث لإيجاد توافق دولي يضع حداً للتدخلات الخارجية السلبية، ولا يخفى على أحد أهمية برامج دعم نفسي الجماعي والفردي للمجتمعات التي عانت من الحرب من أجل تحقيق تعافي نفسي يكون هو اللبنة الأساسية لتحقيق التعافي المجتمعي فيما بعد.

إنه وعد الأمهات لأبنائهن بغدٍ آمن، ورجاء الأطفال بعالم لا يسمعون فيه سوى ضحكاتهم..

إن تفعيل آليات السلم الأهلي في الحالة السورية يتطلب مراعاة التعقيدات المحلية المرتبطة بالطبيعة الطائفية، السياسية، والعرقية للنزاع، بالإضافة إلى آثار التدخلات الدولية، ولكن مثل هذه الإجراءات تحتاج إلى وقت وصبر، إذ يتطلب الوضع معالجة تدريجية وعميقة لموروثات الحرب والانقسامات، مع بيان أن المفتاح الرئيسي هو اعتماد حلول عملية تراعي الواقع على الأرض، مع ضمان مشاركة مجتمعية واسعة ودعم دولي متوازن لتحقيق الاستقرار المستدام.

لقد شهدت دول عدة نزاعات معقدة تشابه الحالة السورية في تعقيداتها، ونجحت إلى حد كبير في تحقيق السلم الأهلي والاستقرار النسبي، من خلال عمليات مصالحة شاملة وآليات العدالة الانتقالية مثل رواندا (1994)، البوسنة والهرسك (1992-1995)، جنوب أفريقيا (1994)، كولومبيا (1964-2016).

وعلى الرغم من التحديات، يمكن للحالة السورية أن تستفيد من هذه التجارب إذا توفرت الإرادة السياسية والتعاون بين القوى المحلية والدولية، فالسلم الأهلي ليس مجرد غاية، بل هو السبيل لإعادة بناء ما تهدم، وإحياء الأرواح التي أرهقتها الحروب، إنه وعد الأمهات لأبنائهن بغدٍ آمن، ورجاء الأطفال بعالم لا يسمعون فيه سوى ضحكاتهم.

إن أكثر امتحانات السوريين صعوبة اليوم أيضاً هو كسر حلقة العنف وعدم التجاوب مع الاستفزازات التي قد تتكرر، كما إن تحقيق السلم الأهلي -مسؤولية مجتمعية تقع على عاتق الجميع من دون استثناء- وهو الاختبار الأصعب من أجل تعايش سلمي حقيقي في سوريا لا تشبه سوريا الأمس، ذلك أن السوريين اليوم في أمسّ الحاجة لبعضهم بعضاً، أكثر من حاجتهم لحماية المجتمع الدولي أو لطلب الوصاية والرعاية من أي جهة كانت.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى