تقسيم وأقليات..

د- عبد الناصر سكرية

لا تكف السياسة الغربية في تعاطيها بالشؤون العربية عن الحديث بحماية الأقليات وحقوق الأقليات والمطالبة بإيجاد التشريعات التي تحميهم وتضمن حقوقهم..وفي هذا الحديث أهداف استعمارية خبيثة ومغالطات مبدئية.

إن الرؤية الغربية ( أميركية – صهيونية – أوروبية ) للوطن العربي تنطلق من إعتباره مجموعات عرقية وطائفية ومذهبية متعددة ومتمايزة عن بعضها البعض إن لم تكن متضاربة الولاء والمصالح..وبالتالي فلا ضمان لحقوقها وحرياتها إلا من خلال مساعدتها – أو إجبارها – بالتحريض والتدليس والتخويف والإبتزاز ؛ على الإنغلاق على ذاتها بحجة الحرص على وجودها ومن ثم التكين المنفصل عن الوطن والولاء له ليكون الولاء للإنتماء العرقي أو الطائفي أو المذهبي بديلا عن الولاء للوطن كخطوة أولى ثم الولاء للكيان الإنفصالي سبيلا وحيد للحماية الذاتية..هذا في مجال التحريض..ويستكمل هذا التوجه تخويف دائم من الآخر لا سيما من الأكثرية..وهذا يستدعي تشكيل أدوات في الأكثرية تمارس أعمالا عدوانية تدفع في طريق الخوف والتخويف..لخلق وتعميق الشعور بعدم الإطمئنان والخوف على المستقبل والمصير والتوجس من الأكثرية وبالتالي الإنفصال عنها :

نفسيا أولا ثم إجتماعيا وحياتيا ثم مؤسساتيا وتنظيميا ؛ فتكون النتيجة التكين المنغلق الإنفصالي..

أما التدليس فيتضمن إفتعال حوادث في كل المواقع والأطراف وتنسيبها إلى تلك الأطراف وعناصرها الذاتية للتنصل من مسؤولية الجهات الغربية التي عملت عليها ونفذتها بأدوات محلية مدروسة ومرتهنة لها..التنصل من تلك الافعال بل وإستنكارها ثم تحميل مسؤوليتها للتطرف والإرهاب تمارسه أكثرية عقائدية متزمتة..ثم ياتي الإبتزاز بإدعاء الحرص على حمايتها وضمان حقوقها وهذا لا يتم إلا بأمرين :

الأول : الإرتماء في أحضان الحماية الدولية – الأجنبية لتلك الأقليات ؛ بإعتبار تلك الحماية هي وحدها الحريصة عليها والقادرة على حمايتها من تسلط وحقد الأغلبية..

الثاني : تثبيت تشريعات دستورية تنص على أحقية تلك الأقليات في مناصب رسمية رفيعة..تضمن حقوقها ونصيبها من القوة الوطنية : مؤسسات – مصالح – إمتيازات ونفوذ..

وهذا هو بالضبط ما يستدعي إقامة نظام مركزي يقوم على المحاصصة :

العرقية – الطائفية – المذهبية..

مؤدى هذا بإختصار شديد :

تقسيم الوطن أفقيا وعاموديا..تقسيم إداري تنظيمي على مستوى الدولة ومؤسساتها يفقدها جميعا الفاعلية والقدرة على الإنجاز والتطور وتحقيق التنمية اللازمة ؛ ثم تقسيم المجتمع بما يفقده المقدرة على التفاعل الجدلي الإجتماعي كقوة عمل متجانسة تسعى معا لحل مشكلاتها المشتركة والنهوض والتقدم وردع العدوان..

ولما كانت كل فئة متكينة تخاف من الأخرى وتنشد الحماية الخارجية لها ؛ فإن منافسات جدية تأخذ طريقها إلى الممارسة للتسابق على كسب الرعاية الأجنبية وحمايتها..وهكذا ترتهن جميع الأطراف للقوى الدولية صاحبة النفوذ والفعالية..وتصبح أدوات لها في تنفيذ رغباتها ومصالحها فيتحقق لتلك القوى الخارجية ما تريد وما تخطط له للإيقاع بالجميع والهيمنة عليهم وعلى توجهاتهم ..

كما تنطلق المنافسات العملية لكسب الحصص وتحصيل المكاسب وزيادة الإمتيازات ؛ كل فئة تسعى لتعزيز حصتها ومكاسبها إستنادا إلى ما يضمنه لها الدستور من حقوق وحصص في الثروة والمؤسسات والنفوذ..على إعتبار أن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوجود والذات الخاصة بكل فئة..وبمرور بعض الوقت ؛ وبالرعاية الخارجية المتنامية ؛ تتخلق مشاعر الإختلاف الوجودي والمصلحي بين الجميع وبالتالي مشاعر الإنفصال الحياتي الذي يعمق الحاجة إلى المزيد من الرعاية الأجنبية..وهكذا إلى أن تقع البلاد كلها في قبضة الإحتلال الأجنبي ليس بالإحتلال العسكري المباشر وإنما بإحتلال عقول ونفوس ومؤسسات وكيانات..

إن مثل هذا الإنقسام والإنفصال النفسي – الإجتماعي – المصلحي المكرس بالدستور ؛ يشكل أكثر أنواع الإحتلال خطورة وديمومة وقدرة على التخريب..فهو إحتلال نابع من أساس البلاد وكيانها البشري..

كان هذا أساسا خلاصة التجربة اللبنانية بالرعاية الغربية التامة لها :

نظام للمحاصصة قسم المجتمع وعمق التمايزات الطبيعية وحولها إلى تناقضات مبدئية وعقائدية ؛ شرخت المجتمع ومنعته من التقدم وجعلت قواه البشرية جميعا رهن تبعيتها لإطراف نظام المحاصصة التي بدورها جميعا رهن تبعيتها للقوى الدولية الأجنبية التي تحميها وتوجهها وترعاها..

ولما كانت المنافسة على توزيع الحصص والمكاسب ؛ تنزلق هذه المنافسة إلى صفوق أبناء المجتمع – رعايا الدولية – فيدخلون في كل ما من شانه أن يحقق لهم المزيد من المصالح ..تبدأ منافسة على مصالح الجماعة – الفئة ثم تتعمم لتتحول منافسة على المصالح الفردية..وهكذا تشتغل كل أنواع الطرق الملتوية وغير الشريفة وحتى غير القانونية فيعم الفساد ويصبح هو قانون التعامل في كل المستويات وكل المجالات..وتكون النتيجة التقهقر والمزيد من التقهقر..الإنهيار الوطني الشامل المؤسس على سياسات محددة وبرامج تفصيلية ومؤسسات واضحة وعجز تام للمواطن المنكوب عن فعل أي شيء أو تغيير أي شيء ويصبح همه الدفاع عن وجوده وتحصيل معيشته ومن في مسؤوليته المباشرة وكأنه دولة قائمة بذاتها عليه تأمين كل خدمات الحياة بمفرده من كهرباء وماء وصحة وطبابة وتعليم وعمل وشيخوخة وهكذا..

ثم كان دستور برايمر في العراق لتعميم التجربة اللبنانية على العراق..

وهذا هو المعني الحقيقي والواقعي للتقسيم الذي يشكل العمود الفقري للسياسة الغربية الإستعمارية في تعاطيها مع البلاد العربية والمجتمعات العربية..

وعلى ما يبدو فهذا ما يحصل – حتى الآن..وعلى ما يبدو فإن مؤشرات عملية كثيرة تجري في سورية تأخذ الأوضاع في هذا الإتجاه :

تصريحات غربية مستمرة عن حقوق الأقليات وحمايتها وتخويفها من الأكثرية المتشددة الآتية للإنتقام من الجميع ..

ممارسات سلبية وتعديات من أدوات مرتزقة او غبية أو مدسوسة او غاضبة لما حل بها طويلا من تنكيل ؛ تنطلق من صفوف الأكثرية بحق افراد او جماعات في الأقليات ..

ثم إستثمار إعلامي ممنهج ومنظم ومتصاعد للتخويف بما يحرض على التقوقع والإنقسام ثم الإنفصال ثم نظام للمحاصصة يتولي تخريب المجتمع وتحويل الخوف إلى ولاء ثم إلى مصير متضارب منفصل وهكذا…

اما المغالطات المبدئية التي يحملها أي حديث عن أقليات في المجتمعات العربية فيتمثل أصلا في إعتبار مواطنين أصلاء من أبناء الوطن ؛ شركاء في تشكيل هويته ومقوماته الإجتماعية والتاريخية ؛ النظر إليهم على أنهم أقلية نظرا إلى عددهم القليل قياسا على عدد الأكثرية..

ليس العدد هو الذي يحدد الهوية الوطنية ..وليس في البلاد العربية اقليات قومية ..

المسيحيون ليسوا أقليات..

الدروز ليسوا أقليات..

العلويون والإسماعيليون ليسوا اقليات..

الشيعة ليسوا اقليات..

جميع هؤلاء مواطنون شركاء في التاريخ والتكوين المجتمعي والإنتماء الوطني والهوية والمصير أيضا..

أما إعتبارهم أقليات فليس سوى المشروع الإستعماري لتفتيت بلادنا وإنهاكها وفرض المزيد من القيود الداخلية المحبطة المستنزفة المعيقة لنهضتها وتقدمها وفعاليتها الوطنية والإنسانية الحضارية..

على الوطنيين الإسراع في بلورة القوة الشعبية المتناسقة المتكاملة التي تستطيع أن ترفض وتقبل ، تمنع وتمنح ، للوقوف بوجه هذا التدخلات الأجنبية المنهكة والمخربة والفتاكة ..

وحدها قوة الشعب المتماسك تستطيع تحجيم التدخلات الدولية ومنعها من تنفيذ أهدافها الخبيثة المدمرة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى