مع وصول آية الله الخميني إلى السلطة، عام 1979، بدأت تتوافد إلى إيران برقيات التهنئة والوفود الزائرة لتقديم التهاني والتبريكات وذلك وفقاً للقواعد والأعراف البروتوكولية المعهودة.
وكانت من جملة رسائل التهنئة تلك، رسالة من الدولة العراقية تبارك للخميني بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وتُعرب عن أملها في أن يكون انتصار الثورة فاتحة عهد جديد يحظى به الشعب الإيراني بالتقدم والنماء، وكذلك فاتحة طور جديد لعلاقات إيران مع جوارها العربي بناءً على المصالح المشتركة بين شعوب المنطقة.
إلّا أن الردّ الإيراني على الرسالة العراقية آنذاك كانت بمنتهى الجلافة والاستعلاء، وقد ختم الخميني ردّه بالقول: (والسلام على من اتبع الهدى)، والعبارة السالفة في سياق كهذا تُعدّ مسيئة، إذ إنها تُقال لغير المسلمين، في إشارة إلى أن النظام القائم في العراق هو نظام كافر.
تتجلّى بوادر حسن النية من الطرف السوري من خلال حماية المراقد الدينية الشيعية وعدم السماح بمساس حرمتها أو الاعتداء عليها، إلّا أن الردّ الإيراني على مبادرات حسن النيّة من الجانب السوري جاء مباغتاً وشديد الوضوح ولا يحتمل مزيداً من التأويل والتفسير..
ويؤكّد هذا المنحى من التوجّه الإيراني ما تضمنته مذكرات (أبو الحسن بني صدر) الرئيس الأوّل لإيران بعد ثورة الخميني، والتي يتحدث فيها عن زيارة وفد عراقي برئاسة أحد المراجع الشيعية لتقديم التهنئة للخميني وتقديم رسالة من الرئاسة العراقية بهذا الخصوص، ولكن الخميني -وفقاً لأبي الحسن بني صدر- رفض استلام الرسالة، ولم تمضِ أيام حتى بدأ بمخاطبة الشباب العراقي للثورة على نظام الحكم الكافر في العراق.
تفكير الملالي وتأسيس الوباء
بعد خمسة وأربعين عاماً تكاد تتكرر تفاصيل المشهد ولكن بشكل معكوس، إذ إن الطرف المنتصر (السوريون) هو من بادر برسائل تنمّ عن حسن نيّة وطمأنة للجانب الإيراني (المهزوم في سوريا) ونعني بذلك التصريحات التي صدرت عن القيادة السورية الجديدة ممثّلةً بالسيد أحمد الشرع، والتي تنفي أي نزوع من الكراهية تجاه الشعب الإيراني، داعيةً نظام الحكم في إيران إلى مراجعة مواقفه وسياساته حيال سوريا.
كذلك، تتجلّى بوادر حسن النية من الطرف السوري من خلال حماية المراقد الدينية الشيعية وعدم السماح بمساس حرمتها أو الاعتداء عليها، إلّا أن الردّ الإيراني على مبادرات حسن النيّة من الجانب السوري جاء مباغتاً وشديد الوضوح ولا يحتمل مزيداً من التأويل والتفسير، ومن أعلى هرم للسلطة في طهران، ففي 22 من شهر كانون الأول الجاري، نشر المرشد “خامنئي” تغريدة مخاطباً من خلالها القيادة الجديدة في سوريا: “لم تكن هناك قوة إسرائيلية ضدكم في سوريا، التقدم بضعة كيلومترات ليس انتصاراً، ولم يكن هناك عائق أمامكم وهذا ليس انتصاراً”.
ولا شك أن “خامنئي” ربما بات من العسير عليه أن يرى أو يعقل أنّ سوريا بالفعل باتت من دون “آل الأسد”، فأراد أن يفرغ مُنجَز السوريين المتمثل بالنصر على الطاغية من مضمونه الثوري، ويحيله إلى مجرّد تقدّم نحو حيّز مقداره بضعة كيلومترات فقط، فضلاً أن تجاوز هذه المسافة إنما تحقق بفعل غياب (إسرائيل) وليس هزيمة جيش الأسد.
وتابع في التغريدة ذاتها: “بطبيعة الحال فإنّ شباب سوريا الشجعان سيخرجونكم من هنا بالتأكيد.. الشباب السوري ليس لديه ما يخسره، جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، ماذا يفعل؟ يجب أن يقف بقوة وإرادة أمام أولئك الذين خططوا لهذه الفوضى وأولئك الذين نفّذوها”.
لعل المقتبسات السابقة لـ”خامنئي” لا تعبر فقط عن موقف رافض أو مناهض لهزيمة حليفه الأسدي في سوريا، بل تمثل دعوة صريحة لتحريض وتجييش ضد السلطة الجديدة في سوريا، وكأنها تكرار للنداء الذي وجهه سلفه الخميني إلى العراقيين لمقاومة السلطة العراقية قبل أكثر من أربعة عقود ونصف.
ولم يشأ وزير خارجية طهران (عباس عراقجي) إلّا أن يعزّز المنحى العدائي ذاته للساسة الإيرانيين تجاه الحكومة السورية الجديدة بالقول: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهّل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”، ولا يخرج كلام عراقجي عن سياق التهديد والوعيد الذي بدأ به خامنئي قبله، فما الذي يمكن لإيران أن تفعله للانتقام من ثورة السوريين؟
جدوى التعويل على الشعارات الزائفة
ربما لا يحتاج المرء مزيداً من التفكير ليدرك أن التطاول الإيراني إلى دول الجوار ونزوعها نحو الهيمنة كان، وما يزال، يتخذ من مواجهة إسرائيل الذريعة الرئيسية، وكما كان التصدّي الإيراني للعدوان الإسرائيلي على بيروت في حزيران عام 1982، مرهوناً باحتلال مدينة البصرة العراقية آنذاك، كذلك يبدو أن التصدّي للعدوان الإسرائيلي الراهن على “حزب الله “وطهران ينبغي أن يكون عبر إعادة احتلال ميليشيات إيران لحمص والريف الدمشقي وحلب والميادين والبوكمال.
وربما هذا ما أراد تأكيده (محمود قماطي) نائب رئيس المجلس السياسي في “حزب الله” اللبناني بقوله: “إننا اليوم أمام خطر صهيوني كان وما يزال من الجنوب، واليوم استجد علينا خطر من الشرق، فإسرائيل دخلت إلى سوريا وأصبحت ليست فقط على حدودنا الجنوبية وإنما أصبحت على حدودنا الشرقية”.
لقد أُتيح لنظام الأسد، منذ عام 2011، وحتى قبل سقوطه بأيام قليلة، المزيد من الفرص للخروج من أزمته، ورغم تلك الفرص والمبادرات التي دفعت بها روسيا وتركيا والأمم المتحدة، علماً أن جميع تلك المبادرات كانت لصالحه، ولا تلبي تطلعات السوريين، لكنه بقي مصرّاً على رفضها..
ما يمكن الإشارة إليه إلى أنّ وجود “الأسد” في السلطة حتى الثامن من شهر كانون الأول الجاري لم يكن عائقاً أمام إسرائيل عن مجمل عملياتها العسكرية التي أفضت إلى مقتل مجمل قيادات الصف الأوّل والثاني لـ”حزب الله”، وكذلك لم يكن عائقاً عن تعطيل أو إعطاب منظومة الاتصالات الرئيسية للحزب عبر تفجير أجهزة (البيجر) اللاسلكية.
وكذلك لم تجرؤ إيران على الذود عن ذراعها الأهمّ “حزب الله” في أثناء مواجهته مع إسرائيل، بل بات جلّ همّها تحاشي المواجهة ولو اقتضى ذلك التضحية بالحزب بقضّه وقضيضه، فما الذي -إذاً- يجعل من زوال نظام الأسد في سوريا إيذاناً بخطر إسرائيلي جديد على لبنان وإيران؟
لعل السمة المشتركة الأبرز بين النظام الأسدي المدحور ونظام الملالي في إيران، وربما بقية الأنظمة ذات النزعة التسلّطية العدوانية، هي انتهاؤها إلى مرحلة من العقم تشبه كثيراً حالة تصلّب الشرايين التي يفضي بها انسدادها إلى الانفجار، فينتهي صاحبها بالموت.
لقد أُتيح لنظام الأسد، منذ عام 2011، وحتى قبل سقوطه بأيام قليلة، المزيد من الفرص للخروج من أزمته، ورغم تلك الفرص والمبادرات التي دفعت بها روسيا وتركيا والأمم المتحدة، علماً أن جميع تلك المبادرات كانت لصالحه، ولا تلبي تطلعات السوريين، لكنه بقي مصرّاً على رفضها، ليس لأنه لا يريد الخروج من مأزقه الخانق، بل لأن بنية نظامه الأمني وطريقة تفكيره القائمة على مفهوم الإبادة كوسيلة للاحتفاظ بالسلطة، لا تتيح له سوى المضيّ نحو حتفه المحتوم.
نظام طهران، وبفترة زمنية ليست بطويلة، شهد انهيارات كبيرة في تطلّعاته التي بناها وخطّط لها وأسسها عبر عقود، تجلّت بتهاوي أذرعه ومن ثم انعدام مفاعيلها، كما شهدت إذلالاً كبيراً في عقر دارها من جانب الاستهدافات الإسرائيلية للعمق الإيراني، بل يمكن التأكيد على أن زوال نظام الأسد في سوريا هو من أكبر هزائمها، إلّا أن ذلك كلّه لم يجسّد أي حافز لحكام طهران نحو إعادة النظر في جدوى سياساتها القاتلة لشعبها قبل الآخرين.
المصدر: تلفزيون سوريا