بعدما أضرم الأسد النيران في البلاد، فر إلى موسكو الباردة، ومن هناك امتلك ما يكفي من الوقاحة ليكتب لنا بأيد ملطخة بالدماء: “لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي”.
اعتدنا على تصريحات مماثلة منذ ورث بشار الحكم عن أبيه عام 2000، إلا أن كلماته تلك في هذا الوقت تحديداً تعكس اعتلالاً نفسياً يستحق الدراسة. لفهمه وتحليله لا يكفينا استعراض ما فعله الأسد خلال الـ14 عاماً الماضية، يجب علينا أن نذهب أبعد من ذلك ونعود بالزمن قرابة خمسة عقود، لنراقب بشار الطفل بن حافظ الوحش.
يصعب علي – كما كثير منكم – استيعاب أن “جزار سوريا” كان طفلاً يوماً ما. نتخيله جميعاً وقد تكوَّن في الـ 34 من عمره، انبثق من إحدى جمرات جهنم، ثم تسلل من أحد أبوابها السبعة، وبمساعدة إبليس وصل مباشرة إلى كرسي الحكم ليغمره بالقطران اللزج.
مع ذلك توحي لنا ابتسامته البلهاء في صوره شبه العارية بأنه، وقبل أن يصل إلى الجحيم، اجتاز أولاً عالماً مختلفاً ..عالم مثير للفضول، يستحق الدراسة هو الآخر.
يستخدم الأسد الإنكار كآلية دفاعية، ويحارب بشدة ليثبت أنه قائد عظيم لن تحظى سوريا بمثله ثانية، وهو ما يشير إلى إصابته باضطراب الشخصية النرجسية
“بطل” لن تحظى سوريا بمثله مرتين
يعكس البيان المنسوب لبشار الأسد انفصالاً صارخاً عن الواقع. لم يستوعب الرجل فكرة سقوطه، ولم يعلق على فظائع صيدنايا، ولا يزال متمسكاً بسردية الإرهاب والمؤامرات، ويحاول جاهداً إقناعنا بأنه “لم يهرب”.
عدا عن ذلك يغرق في الحديث عن فضائله وتضحياته في سبيل “الوطن” و”الشعب” ويصور نفسه بطلاً “رفض أن يقايض خلاص وطنه بخلاصه الشخصي”. ويتمادى بالادعاء بأن منصب الرئاسة أصبح “فارغاً لا معنى له” بعد سقوطه.
في ذلك البيان، يستخدم الأسد الإنكار كآلية دفاعية، ويحارب بشدة ليثبت أنه قائد عظيم لن تحظى سوريا بمثله ثانية، وهو ما يشير إلى إصابته باضطراب الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Disorder) أو النرجسية المرضية.
يخلق هذا الاضطراب لدى صاحبه شعوراً زائفاً بالعظمة التي يعتقد معها بأنه فريد واستثنائي يستحق إعجاب الآخرين وتقديرهم، وبأن جميع سلوكياته، مهما كانت، لا بد وأنها تخدم غاية نبيلة.
ترى الكاتبة والطبيبة النفسية الألمانية، كارين هورني، أن النرجسية ليست اضطراباً منعزلاً، بل هي انعكاس لخلل أعمق في قدرة النرجسي على التكيف مع العالم. ينشأ هذا الخلل في مراحل مبكرة من الطفولة، عندما لا يشعر الطفل بالتقدير والحب ويعاني من الإهمال والنقد المستمر. عندها يحاول إخفاء شعوره الداخلي بعدم الأمان من خلال تضخيم شعوره بذاته. هنا تصبح النرجسية وسيلة لحماية الذات من الإحساس بالعجز أو عدم القيمة.
رئيس على دكة الاحتياط
نشأ بشار ضمن ديناميكيات أسرية معقدة، ساعدت في تكوين شخصيته النرجسية، فقد كان منزل حافظ الوحش، الذي عرف لاحقاً بلقب حافظ الأسد، بيئة خصبة لنمو الاضطرابات النفسية وترسيخها.
كان الأسد الأب رجلاً متسلطاً لا يعترف بأهمية العاطفة، بل يراها موطن ضعف – رسائله لأنيسة تثبت ذلك -. كذلك لم يعر عائلته أدنى اهتمام، وهذا ما أوضحه ابنه باسل، في مقابلة له مع الصحفي البريطاني باتريك سيل عام 1988، حين قال: “لم نتناول أبداً الإفطار أو العشاء معه، ولا أتذكر أننا تناولنا الغذاء معًا كعائلة أو ربما فعلنا ذلك مرة أو مرتين”.
على صعيد آخر، عانى بشار من التهميش لسنوات لصالح أخيه الأكبر نجم العائلة و”الفارس الذهبي”، باسل الأسد. لم يكن من المخطط أن يكون بشار خلفاً لأبيه، فهو لا يملك كاريزما أخيه القيادية، لم يكن مظلياً ولم يكن فارساً ولم يمتلك خلفية عسكرية. أكتافه الهزيلة كانت أضعف من أن تحمل الإرث الدموي لعائلة الأسد، وشخصيته المنزوية لا تصلح لإدارة مملكة الخوف التي أسسها والده. لكن شاءت الأقدار أن يضطر الأسد الأب للاعتماد على ابنه الغر، فاستدعاه من بريطانيا وبدأ بتحضيره ليكون “طاغية” سوريا المستقبلي.
يعتقد علماء النفس، أن النرجسية مرض يصاحب معظم الطغاة، إذ غالباً ما يعاني الطاغية من اضطراب في تكوين الذات، وفقاً لتعبير المحلل النفسي الأميركي، هاينز كوهوت. هذا الاضطراب يدفع الطاغية للسعي المحموم للحصول على التبجيل والتوقير والولاء المطلق من الشعب، وذلك بهدف قمع الإحساس الداخلي بالهشاشة أو الفشل في تحقيق الذات.
هشاشة بشار الأسد الداخلية تنامت مع مخاوفه من تخييب ظن أبيه وعدم قدرته على الارتقاء لمستوى أخيه “شهيد الوطن”، وخلقت لديه رغبة جامحة في إثبات الذات والتأكيد على الهيبة والحصول على “الحب”.
لم يحصل بشار على حب أبيه أو تقديره، لكن عوضاً عن ذلك، اعتقد أنه استطاع انتزاع هذا “الحب” من 23 مليون سوري. يروي البروفيسور الأميركي، ديفيد ليش، أنه تواصل مع بشار الأسد في 2007، ليسأله عن سر نجاحه في الاستفتاء الرئاسي بنسبة 97.6، عندها أجاب الأسد بكل ثقة وقناعة: “لأن الناس يحبونني”.
الشعارات التي أطلقها بشار الأسد على مدار سنوات حكمه تثبت حاجته المرضية لاستحقاق هذا الحب، ابتداء من “منحبك يا كبير” وانتهاء بـ”بالروح بالدم نفديك يا بشار”.
هذا عدا عن تماثيله وصوره المنتشرة في الشوارع والأزقة والطرقات والمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية، وعلى واجهات السيارات والمحلات والبيوت.
الشعور بالاستحقاق والحاجة للحصول على الإعجاب والتقدير هي سمات أساسية للمصابين بـ “اضطراب الشخصية النرجسية”، مع ذلك عند الحديث عن الطغاة، يستخدم علماء النفس مصطلحاً آخر، ألا وهو “النرجسية الخبيثة”.
السلطة.. وسيلة لتعريف الذات ومنبع للنشوة
لا يوجد اعتراف بمصطلح “النرجسية الخبيثة” في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، مع ذلك يستخدم على نطاق واسع لتمييز النرجسية المرضية التي تصيب الطغاة تحديداً، والتي تتشابه أعراضها مع أعراض النرجسية التقليدية، لكن يضاف إليها “السلوك المعادي للمجتمع” وهو سلوك يعاني منه الساديون و المصابون بجنون العظمة.
يربط عالم النفس والفيلسوف الألماني إريك فروم، بين النرجسية والسلطوية، إذ يعتقد أن الطغاة النرجسيين يستمدون قيمتهم الذاتية من خلال القهر الذي يمارسونه على الآخرين.
في هذه الحالة تستخدم السلطة كآلية دفاعية لإخفاء مشاعر داخلية بالضعف والدونية، من خلال تكريسها للتأكيد على القوة والعظمة المتوهمة.
ربما رافقت مشاعر الدونية، حافظ الأسد الشاب الطموح الخارج من بيئة متواضعة. وبعد امتلاكه السلطة المطلقة عمد إلى تغطية مشاعره تلك برداء “جنون عظمة” الذي تنامى إلى حد جعله يتخيل نفسه “القائد الخالد” الذي لا يموت.
أما الأسد الابن فوصلت رغبته في تمجيد ذاته لدرجة جعلته يختصر سوريا بحضارتها وعراقتها بـ”سوريا الأسد”. كما دفعته للاعتقاد بأن سوريا بأكملها لا تستحق الحياة إن لم يكن هو حاكمها، وينعكس ذلك جلياً في شعاره الشهير “الأسد أو نحرق البلد”.
السلطة بالنسبة لهذه العائلة لم تكن مجرد أداة للبقاء في الحكم، بل كانت جزءاً من الهوية ومصدراً رئيسياً لتعريف الذات. من دون السلطة الأسد “لا يكون”. وللحفاظ على هذه الكينونة لجأ الأسد الأب والابن إلى قمع المعارضة بصورة دموية في فترة الثمانينيات، وعقب ثورة 2011.
على صعيد آخر، لم يشعر أي منهما بالذنب، أو التعاطف مع الضحايا، إذ يعتقد الطاغية النرجسي أنه فوق القانون والأخلاق، ويفقده “التمحور حول الذات” القدرة على رؤية الآخرين على أنهم بشر لهم حقوقهم ومشاعرهم.
بعيداً عن علم النفس، يعتقد أن فقدان القدرة على التعاطف مرتبط كذلك بخلل وظيفي في جزئين رئيسيين من الدماغ: الفص الجبهي السفلي واللوزة الدماغية.
نعلم جميعنا – أو رأينا جميعنا – عدم وجود ما يثير الإعجاب في صور بشار شبه العارية، التي وجدت في قصره بعد هروبه، مع ذلك قد يكون للرئيس الهارب وجهة نظر أخرى.
ينشط الفص الجبهي عند اتخاذ القرارات الأخلاقية، في حين تنظم اللوزة الدماغية مشاعر الخوف والغضب والرغبة ــ الجوانب الأكثر حيوانية في سلوكنا ــ. لذا، فإن تضرر هذه الأجزاء من الدماغ يعتبر وصفة جاهزة للاعتلال النفسي.
من ناحية أخرى تسهم اللوزة الدماغية في نظام المكافأة في الدماغ، حيث تعزز المشاعر الإيجابية عند القيام بأفعال تجلب السعادة، مثل تناول الشوكولا أو مشاهدة غروب الشمس.
بالنسبة للساديين والطغاة، الذين يعانون من نقص في نمو اللوزة الدماغية، فإن مشاعرهم الإيجابية ترتبط عادة بسلوكيات منحرفة مثل القتل أو التعذيب أو ممارسة السلطة لقمع الآخرين.
في هذا السياق السلطة بالنسبة لهم ليست جزءاً من الهوية فحسب بل منبع للنشوة والسعادة كذلك.
العري.. وسيلة يائسة لإظهار القوة والتحكم
يعتقد سيغموند فرويد، أن الجسد هو الساحة الأولى التي يعبر فيها الفرد عن حبه لنفسه، وبالتالي يشكل جزءاً أساسياً في تشكيل الصورة الذاتية للنرجسي. وقد يرتبط الجسد في بعض الأحيان، بجروح نفسية ربما نشأت خلال الطفولة أو في مرحلة لاحقة من الشباب. وبالتالي قد يشعر النرجسيون بأن جسدهم هو “الملاذ” الذي يمكنهم من التعامل مع هذه الجروح النفسية، إذ يمكن أن يصبح الجسد مصدرًا لمشاعر التفوق أو العجز بحسب ما يراه الفرد في ذاته. في هذا السياق، قد يستخدم النرجسيون أجسادهم كوسيلة لجذب الإعجاب والانتباه.
نعلم جميعنا – أو رأينا جميعنا – عدم وجود ما يثير الإعجاب في صور بشار شبه العارية، التي وجدت في قصره بعد هروبه، مع ذلك قد يكون للرئيس الهارب وجهة نظر أخرى.
أوهام العظمة، قد تدفع النرجسي إلى تصور جسده كـ”أيقونة” تعكس قوة نفسه وصلابتها، وبالتالي قد ينظر إلى جسده بإعجاب وتباه حتى ولو لم يكن جديراً بالإعجاب. وهذا ما قد يفسر استعراض الأسد لجسده بهذا الأسلوب الفج.
أما إن كانت لديه معتقدات سلبية حول مظهره الجسدي، فقد يلجأ كذلك لتحديها من خلال هذا الاستعراض، فهو يدرك في النهاية أنه فوق الانتقادات، وحتى لو تجول بجسده الهزيل المكشوف في حدائق قصره، لن يحصد سوى المديح والإطراءات، التي تعزز من ثقته بنفسه وتشعره بمزيد من السيطرة، وتجعله يرى في جسده رمزاً للرجولة والقوة والسلطة المطلقة.
في تفسيرات أخرى، قد تكون هذه الظاهرة نتيجة للرغبة التي تتولد لدى النرجسيين في إزعاج الآخرين وإيذائهم عن عمد، عندها قد يكون التجول عارياً ما هو إلا محاولة لإشباع هذه الرغبة، من خلال الاستهتار بالمعايير الاجتماعية وإيذاء الآخرين بصرياً، لا سيما وأنهم لن يجرؤوا سوى على إبداء الإعجاب والتقدير. بهذه الطريقة، يؤكد الأسد مجدداً قدرته على “قمع” الآخرين، الأمر الذي يمنحه تحكماً نفسياً أقوى وشعوراً متزايداً بالسيطرة والعظمة.
عموماً العبرة دائما في الخواتيم…. عانى جميع الطغاة النرجسيين من أوهام العظمة الزائفة، وبسبب هذه الأوهام رفضوا تصديق واقع سقوطهم وخاضوا معاركهم الوجودية حتى آخر رمق.. لكن عظمة بشار الأسد الوهمية لم تصمد في لحظة الاختبار الحقيقية.
مع اقترابه من النهاية، لم ينتحر مثل نيرون أو هتلر، ولم يختر البقاء في بلده حتى لحظاته الأخيرة مثلما فعل صدام حسين أو القذافي.
سيذكر التاريخ، أن بشار الأسد الذي عاش حياته متخفياً وراء ربطات عنق وبدلات باهظة الثمن، اختار في النهاية الهروب إلى موسكو الباردة.. عارياً.
المصدر: تلفزيون سوريا