من الثورة إلى الدولة يا أحمد الشرع!

عمار ديوب

هي أيام على هروب بشّار الأسد. يُلقي أحمد الشرع تصريحات يومية، تغطّي كل القضايا التي تخصّ الانتقال من الثورة إلى الدولة. المرحلة معقّدة للغاية، والشرع وحيداً في مواجهة أزمات الداخل، بما فيها تعدّد قوى “الهيئة”، وبدأ الخارج يضغط بشدّةٍ، وقد زاره موفد الأمم المتحدة، غير بيدرسون، وتباحث معه في كيفية تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، والوفود الدولية تتقاطر يومياً. طبعاً هناك دول داعمة للشرع.
من أبرز التعقيدات (الآن) تقدّم جيش الدولة الصهيونية إلى أبواب دمشق، وهو يبعد عدّة كيلومترات عن مقرّ الشرع (هناك معلومات عن تراجعها واحتفاظها بجبل الشيخ)، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق سورية، وفصائل الجيش الوطني وجيش سورية الحرّة، وحتى قوات أحمد العودة في درعا، وقيادات النظام الأمنية والعسكرية وكبار الشبيحة لم تُعتقَل بعد، والمعارضة المكرّسة تناور وتستعين بالدول لتستوزر فقط، والأمن ما زال في غاية الهشاشة، بينما تضغط قوى هيئة تحرير الشام لتكون المهيمنة على مفاصل الدولة في العاصمة بشكل خاص، وفي بقيّة المدن، ورجالها مصدر ثقة لدى الشرع. وراحت أطر “الهيئة” تملأ المناصب الأساسية، ليس في الحكومة المؤقّتة فقط، بل أيضاً في القضاء والإعلام والهيئات الاقتصادية والمحافظين. والشرع يقدّم نفسه زعيماً لسورية، وينوي الترشّح “إن طُلِب منه”، يكرّر إن علينا أن نغادر عقلية المعارضة إلى الدولة، ولكنّ تعييناته تنطلق من الشخصيات التي جاءت من إدلب، أي لا تزال عقليته مُحتجَزة في مرحلة المعارضة.

تعيينات الشرع تنطلق من الشخصيات التي جاءت من إدلب، أي لا تزال عقليته مُحتجَزة في مرحلة المعارضة

نعم، دخلت سورية مرحلةً جديدةً، وسيكون التجريب كثيراً فيها، ولكنّ ابتعاد الشرع عن الحوار والنقاش مع الشخصيات الوطنية في داخل سورية يقيّده ضمن أطر وعقلية وفِكَر وسياسات “الهيئة”، وهذا مطبٌّ كبير، وتفكير ما قبل الدولة. والدولة تحتاج عقليات وسياسات وطنية وجامعة، تحتاج عقلية تتجاوز مفهوم الطوائف وتتبنّى مفهوم الشعب والمواطنين. يؤكّد الشرع أن العقد الاجتماعي /السياسي المقبل سيكون بين الطوائف، ولن “تكون محاصصة ولا خصوصية ولا انفصال”. طبعاً، أكّدت كل بيانات “الهيئة” (ومنذ معركة حلب) مفهوم المكوّنات، وإن لناحية تطمينها. ليس الانطلاق من هذه الزاوية في الفهم سليماً، ويؤسّس مستقبلاً لنوع من الطائفية السياسية، فعدم المحاصصة يعني عدم المساواة بين الطوائف، ومن ثم، هيمنة الأغلبية السنّية. اللحظة الراهنة مكبّلة بالأزمات والضغوط الخارجية، وعلى القوة المهيمنة في دمشق أن تتذكّر أن قرار مجلس الأمن 2254، ينصّ على ألّا تكون الدولة طائفية. يتوجّه الضغط الدولي، مباشرة، إلى هيئة تحرير الشام، وإلى أحمد الشرع. شُطِبت المكافأة الأميركية المخصّصة لاعتقال الشرع حين زاره الوفد الأميركي في دمشق، ولكنّ “الهيئة” ما تزال مصنّفةً إرهابيةً، وهذا بالون اختبار لشروطٍ تضعها عليها الإدارة الأميركية والاتحاد الأوربي، ولا سيّما بخصوص الموقف من دولة الاحتلال وقضية احتلال الجولان. هناك حالياً تجديد للضغط وللشروط عبر القرار 2254 أخيراً في اجتماع مجلس الأمن. بدأت الضغوط الخارجية تُفعّل، ولا يستطيع الشرع مواجهتها بالقول إن القرار يجب أن يتغيّر، فقد أصبح هذا القرار بسقوط النظام ميتاً بصيغته القديمة، ولكن هناك دول قوية تصرُّ على إحيائه… الآن، إلى أين سيهرب الشرع، فهو الشخصية الأولى في “الهيئة” والعالم يتربّص به، وعليه أن يتّخذ القرارات الصعبة لينجو وتنجو سورية.
تكلم الشرع على دعوةٍ إلى عقد مؤتمر حوار وطني، وهناك مسوّدة إعلان دستوري لتنظيم المرحلة الانتقالية، وهذا توجّه صحيح، ولكن ليس من الصواب تشكيل لجنة لتدارس موضوع الدستور كما صرّح. إن تأسيس الدولة يتطلّب التفكير في المؤسّسات والقوانين العامّة، وهي فكرة يؤكّدها الشرع كثيراً، ولكنّ ذلك يمرّ عبر إشراك مختلف الفعّاليات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وإيقاف تعيينات كوادر “الهيئة” في المناصب الرئيسة، والاستعانة بشخصيات نزيهة لمرحلة مؤقّتة، كانت مُستبعدة من النظام السابق. تكون مواجهة الضغوط بالالتفات إلى الداخل، والاستعانة بالشعب ونخبه، وهو ما رفضه النظام القديم، وأتى بالإيرانيين والروس، وكانت النتيجة ما آل إليه الوضع منذ 2011. اللحظة الراهنة هي لحظة الاختيار بين تنفيذ متطلّبات الخارج والالتفات إلى الداخل. ونضيف، ضبط الخلافات مع تنويعات “الهيئة” وتفكيكها، وتأسيس جيش وطني بديل من “إدارة العمليات العسكرية”. بوضوح شديد، فشلت (وأُفشِلت) تجارب إسلامية في الحكم في مصر وتونس بعد 2011، وهناك دول كثيرة رافضة لإعادة التجربة في سورية، وعملت (وستعمل) لتحطيمها وتحطيم سورية. وعكس ذلك، هناك رضىً سوري عامّ على توجّهات “الهيئة”، ولكن الانتقادات بدأت تتصاعد، والحذر بدأ يقوى ويشتدّ، ويطالب بالتشاركية السياسية، ولم تُعلِن بعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تظاهراتها.

من الضروري توسيع النقاشات، وعدم الاكتفاء بشخصيات وكيانات مقرّبة من أحمد الشرع، بغية تشكيل هيئة حكم موسّعة

أمّا مسوّدة الإعلان الدستوري المتداولة فتقع في تناقضٍ، إذ تجمع موادَّ تستند إلى المرجعية الإسلامية، وأخرى تنطلق من المواطنة وحقوق الانسان. أيضاً، هناك ضرورة لتوسيع النقاشات، وعدم الاكتفاء بشخصيات وكيانات مقرّبة من أحمد الشرع بغية تشكيل هيئة حكم موسّعة من المعارضين الثقات، أو الشخصيات الوطنية، واستناداً إلى روح القرار 2254، والإصرار على تعديله، وهو ما نتّفق فيه مع الشرع، لجهة إلغاء أيّ نصوص تتعلّق بالنظام السابق، وسيساهم هذا في تخفيف الضغوط الخارجية، ويُبرّد الحذر ويُنقذ “الهيئة” من الضغوط، ولكن يجب تفكيكيها، وربّما هذا سيضع حدّاً للشروط الخارجية أو يرفع العقوبات، ومن ثم، تخفيف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وليست “الهيئة” وحدها معنية بتغيير ذاتها، بل كذلك مختلف الفعّاليات السورية. الإكثار من التجريب والفِكَر العشوائية في لحظة الأزمات والانتقال يعني غياب النقاشات الجادّة، ويعني عدم الاعتماد على سياسات واضحة وخطوات دقيقة للنهوض بالدولة، وربّما يتضمّن الركون إلى الوعود الخارجية. إن الوضع، ومجمل الأزمات والضغوط، تقتضي الانتقال إلى تلك السياسات، فهل تبدأ النقاشات الموسّعة من أجل إقرار السياسات؟

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى