يواجه الشعب الفلسطيني أخطر مراحل حياته، إذ يتعرّض في قطاع غزّة لجريمة حرب ثلاثية، تشمل التطهير العرقي، والعقوبات الجماعية، والإبادة الجماعية التي لا سابق لها، ويتعرّض في الضفة الغربية والقدس لأوسع عملية تهويد وضمّ واستيطان إرهابي منفلت من كلّ عقال. وتتعرّض جماهير الداخل الفلسطيني لكبت واضطهاد عنصري يترافق مع تعميق قوانين الأبارتهايد العنصرية. وتترسّخ في المنظومة الصهيونية الحاكمة، الفاشية بأبعادها كلّها، التي لا تقيم وزناً أو احتراماً لأيّ قانون دولي أو لحقّ من حقوق الإنسان. وينتصب أمام الفلسطينيين، مع قدوم دونالد ترامب، وفي ظلّ الصهيونية الفاشية، خطران عظيمان، الضم والتهويد، والتطهير العرقي لقطاع غزّة والضفة الغربية.
وما يزيد الطين بِلّة، استمرار (بل تعمّق) واتساع الانقسام الفلسطيني الداخلي، من دون مبرّر منطقي أو عقلاني، إلى درجة الاقتتال الداخلي. وإذا كان هناك سببان أساسيان للانقسام الداخلي الفلسطيني؛ الخلاف على البرنامج السياسي والصراع على السلطة في الأراضي المحتلة، فإن السبيين زالا، إذ اختفى وهم الحلّ الوسط مع الحركة الصهيونية التي بدّدته، بعد أن أظهرت أن تبنّيها المرحلي له كان مناورة تكتيكية لتمرير مخطّط الضم والتهويد الاستراتيجي. كما اختفت موضوعياً أسباب الصراع على السلطة، التي أُعيد احتلالها، سواء في قطاع غزّة أو الضفة الغربية، ففيهما صارت السلطة بلا سلطة حقيقية، وغدت مكوّناتها الباقية مثل شعبها تحت الاحتلال.
اختفت موضوعياً أسباب الصراع على السلطة، التي أُعيد احتلالها إسرائيلياً، سواء في قطاع غزّة أو الضفة الغربية
فهل بقي بعد ذلك كلّه سبب لاستمرار الصراع الداخلي، بل لتصاعده ليصل إلى حالة المواجهة المسلّحة كما يجري في مخيّم جنين؟ وهل يكون المخرج في تعميق حالة الاستقطاب المريع، وشنّ الحملات الإعلامية المتبادلة، والظالمة، ورفع شعار “من ليس معي بالكامل فهو ضدّي”، مع محاولة إخماد كلّ صوت يدعو إلى تغليب العقل والحكمة واستعادة الوحدة الوطنية المفقودة؟
أليس فيما جرى عام 1948، من نكبة مروّعة أدت إلى تهجير 70% من الشعب الفلسطيني، وتدمير ما لا يقلّ عن 520 قرية وبلدة وتجمّع سكّاني، ومسحها من الوجود، خير عبرة لمدى الضرر الذي ألحقه انقسام الاتجاهات والعشائر الفلسطينية في حينها، وغياب قيادة وطنية موحّدة ومقرّرة، حتى صارت فلسطين ملهاةً لكثيرين تخلّوا عنها، وفرّطوا في حقوق شعبها. ولماذا أُفشِلت محاولات رأب الصدع، واتفاقيات المصالحة، من الجزائر إلى العلمين إلى موسكو، إلى اتفاق بكين الذي شكّل مدخلاً معقولاً لتغيير الاتجاه في الساحة الفلسطينية، من حالة الصراع والخلاف الداخلي إلى بدء عملية رأب الصدع وتوحيد الطاقات الفلسطينية؟
هناك تفسيرات كثيرة لاستمرار حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني، ومنها تمسّك بعض الناس بأهداب سلطةٍ تزيل إسرائيل صلاحياتها الواحدة تلو الأخرى، ومنها التعلّق باتفاق أوسلو، الذي شطبت إسرائيل بجلافة كلّ ما لا يعجبها فيه، بل كلّ جوهره، ويكفي أن نذكر استيلاءها على كامل منطقة “ج”، وترسيخها الاستيطان، وبناءها 52 مستعمرة جديدة، سبعة منها في ما تسمّى منطقة “ب”، أو اقتحامها العسكري المتواصل لجميع المدن والقرى والمخيّمات، بما في ذلك ما تسمّى منطقة “أ”، التي يفترض أن تكون، بحسب اتفاق أوسلو، تحت سيطرة السلطة الفلسطينية المدنية والأمنية.
ومن التفسيرات تعاظم التعصّب الحزبي والفصائلي، وادّعاء كلّ طرف امتلاكه الحقيقة الكاملة. ومنها مشاعر الغضب المشروعة، لمن دفعوا الثمن الأكبر لجريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية. ولكن أخطر الأسباب، هي ظاهرةٌ أودت بحياة شعوب كثيرة تعرّضت للغزوات والاحتلال، حين يضعف الشعور الجماعي الجامع بوحدة المصير المشترك، ووحدة النضال، وتتعاظم مشاعر الخلاص الفردي والقبلي والعصبوي على حساب المصلحة الوطنية الجماعية المشتركة، وحين يغيب الوعي بأن وحدة الطاقات والمكوّنات أكبر عامل في إنقاذ الشعوب من مصائر خطيرة يخططها أعداؤها.
ضياع الوعي، الطارئ، يمثّل سبباً جوهرياً في تدهور الحالة الفلسطينية الداخلية
تعرّضت فرنسا في الحرب العالمية الثانية لهزيمة ماحقة، واحتلال ألماني نازي لأراضيها كلّها. وكان هناك من القيادات الفرنسية من انهار وفقد الأمل، وقبل التعاون مع الاحتلال من أمثال المارشال بيتان الذي كان يُعتبر بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى، ولكن صوت مقاومة الشعب الفرنسي كان أقوى، وكان توحيد قوى المقاومة بمشاربها كلّها، من اليسار إلى اليمين، حول شعار وبرنامج “فرنسا الحرّة” هو ما أنقذ الشعب الفرنسي من الضياع. ولم تكن ثورة الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي لتنجح لولا وحدة قوى الكفاح والنضال الجزائرية. ولم يكن نيلسون مانديلا ورفاقه في المؤتمر الوطني الأفريقي ليستطيعوا إسقاط نظام الأبارتهايد العنصري السياسي لولا قدرتهم في توحيد طاقات وقوى النضال في مواجهة قمع ودسائس نظام الفصل العنصري، الذي عمل جاهداً على تقسيم صفوفهم، بل ابتدع أنماطاً من الحكم الذاتي في بعض المناطق لترسيخ سيطرته.
“فرّق تسد”.. كانت دائماً الاستراتيجية الأمثل للاستعمار البريطاني، وقد تبنته منظومات الاستعمار والاحتلال والقمع كلّها، وكانت الحركة الصهيونية، ومن ثمّ حكومات الاحتلال أبرز من برع في استخدامه. ربما لا يكون الوعظ والإرشاد هو الأسلوب الفعّال في معالجة المصاعب الداخلية الفلسطينية، ولكن المحاججة المنطقية والعقلانية لا تترك مجالاً للشك في أن ضياع الوعي، الطارئ، يمثّل سبباً جوهرياً في تدهور الحالة الفلسطينية الداخلية. وإذا كان الوعظ بالمصلحة الوطنية العليا، والإرشاد بمخاطر ما ينتظرنا شعباً يناضل من أجل حرّيته غير كافٍ، فلعلّ الإدراك المنطقي، أن كلّ ما هو قائم من سلطة وقدرة سياسية وتنظيمات وفصائل ومصالح سيكون معرّضاً للزوال إن نجح الاحتلال المدعوم غربياً في مخطّطاته، يشكّل حافزاً للجميع من أجل استعادة الوعي بالخطر والمصير المشترك، ولوقف نزيف الصراعات الداخلية.
المصدر: العربي الجديد