قراءة في رواية: فاصلة بين نهرين

أحمد العربي

غفران طحّان كاتبة سورية، هذا أول عمل روائي لها، ولها مجموعات قصصية.

فاصلة بين نهرين رواية تعتمد أسلوب الكتابة بلغة المتكلم، على لسان الشخصيات المحورية في الرواية؛ نورس وسوسنة، يجلسون على منصة البوح تباعا، بحيث تتطور أحداث الرواية، دون تقاطع مباشر بينهما إلا عبر الفيسبوك إحدى وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مع غيرها، تمثل عالما موازيا، واحيانا بديلا عن العالم الواقعي، ومهيمنا عليه.

زمان الرواية بعد سنوات على الثورة السورية او الحرب كما تقول الرواية، ومكانها حلب في بعض احيائها، حيث يسكن نورس وقريبا منه في ذات الحي تسكن سوسنة. ما حصل في حلب منذ بداية الثورة الحراك السلمي ومن ثم العنف الباطش من النظام ضد الحراك وتحول بعض الثوار للعمل المسلح؛ جيش حر وغيره ممن ركب الموجة، تحرير بعض احياء حلب ومن ثم عودة هيمنة النظام عليها، واستقرار الحياة في حلب، هاجر من هاجر، وبقي من بقي، مات من مات، من أُصيب، من اعتقل، من دمّر منزله أو البناء الساكن فيه… الخ. كل ذلك يحضر عابرا في حياة نورس وسوسنة.

نورس الرفاعي الكاتب المعروف سليل المشايخ والعائلة العريقة، يبدو أنه لم يكن معنيا بما حصل في سوريا وحلب منها، نورس مسكون بذاته الى درجة شبه غياب لما حصل و يحصل جواره في الحي وفي حلب. كان قد عاش قصة حب لم يتكلل بالزواج، لم يتجاوب أهلها وزوجوها غيره رغما عنها، لعله يشعر بالغبن والظلم. شكل له ذلك ندبة نفسية.

نورس يستيقظ في أحد الصباحات على رائحة سيئة تملأ جو بيته، وهو المصاب منذ طفولته بردود فعل تقيؤ واصفرار لمجرد ان يشم روائح نتنة او سيئة. يتحرك بسرعة باحثا عن مصدر الرائحة ليتفاجأ بوجود جثة في بيته، جثة رجل ميت، ارتبك نورس ولم يعرف كيف يتصرف، فكر وتوصل إلى حل أن يلفها بسجادة جدته العجمية وينقلها الى خارج البيت ويرميها في نهر قويق، النهر الذي كان قد وجد به الكثير من الجثث المقتولة والمرمية به. المهم التخلص من الرائحة ومن الجثة. لفّ الجثة بالسجادة وغلّفها جيدا وحاول ان يخرجها من منزله، لكن المرأة التي تنظف منزله أسبوعيا وتسكن في ذات البناء حاولت أن تأخذها إن أراد التخلص منها وكذلك غيرها من جيرانه. ارتبك وأعاد الجثة الى بيته وجلس يفكر بالحل. كتب على صفحته في الفيس منشورا صغيرا بعنوان: جثّة في بيتي، لقيت الكثير من التعليق بين مصدق ومكذب وساخر ومازح. صديقه المخلص اياد تواصل معه ليعرف اصل الموضوع وعلم أنه صادق في ذلك. حاول المجيء إليه، وطلب منه أن يخبر الشرطة بذلك ليحمي نفسه من تبعات وجود الجثة عنده، ورفع المسؤولية عنه. جاءت الشرطة بحثوا وتقصّوا ولم يجدوا الجثة، رشى ضابط الشرطة وجلس يفكر بنفسه، صديقه اياد طالبه بالذهاب الى طبيب نفسي، انه يحتاج لعلاج. هل أصيب بالجنون حتى يتهيأ له وجود جثة عنده، لكنه بقي مصدق ما تراه عيناه. كانت سوسنة احدى صديقاته على الفيس وفي الحي، تعاطفت معه، وتواصلت معه. حاول نورس أن يتأكد أكثر مما يرى. قام ببث مباشر على الفيس بوك وأرسل صورا للجثّة وطلب من متابعيه جوابه عن وجود جثة في الصور أم لا؟ وجاءه الجواب ان لا يوجد. لم يستطع نورس تقبل ذلك، لقد لاحظ أن الشبه بينه وبين الجثة كبير.. قرر أن يحمل الجثة ليلا لكي لا يلفت النظر ويذهب بها الى نهر قويق ويلقيها هناك ويرتاح… وهكذا حصل وصل الى هناك اختار مكانا معينا ووجد نفسه يسقط هو والجثة…

هنا تنتهي حكاية نورس…

أما سوسنة الفتاة المسيحية ابنة حلب ايضا، وضعها مختلف تعيش مع والدتها المقعدة، بعد ان توفي والدها. تعيش على امل ان تنجب طفلا من حمل مستمر لخمس سنوات ؟ !. سوسنة كانت قد التقت بآدم في طابور الحصول على جواز سفر منذ خمس سنوات، عندما قرر كثير من السوريين أن يهربوا من سوريا حفاظا على الحياة، وبحثا عن خلاص، هناك في الطابور وقعت فاقدة الوعي، ساعدها الرجل الذي يقف خلفها، كان آدم، رافقها الى البيت، ومن يومها اصبحا حبيبين يلتقيان كل الوقت، كان يفكر بالسفر الى خارج سوريا، ومن ثم يبعث لها لتتبعه الى بلاد اللجوء، حصل بينهم علاقة جسدية كاملة، لم يستطع ان يحصل على إمكانية زواج موثق في النفوس، الحالة معقدة، ولم يقبل أن يتزوجها في الكنيسة وهو المسلم، والحل كان أن تزوجها بعقد عرفي على يد شيخ وشهود. لقد تبين أنها حامل منه، وأنه سيذهب عبر البحر بمساعدة المهربين إلى أوروبا جنة الدنيا. ذهب آدم ولكنه لم يصل، لقد غرق في البحر، تأكدت سوسنة من ذلك عبر فيديو التقطه أحد المهتمين وشاهدت إغراقه ووثائقه، بما فيها صورتهما معا. انصدمت سوسنة بما حصل، و أسقطت حملها، ووصلت إلى عتبات الجنون. انها لم تصدق موت آدم، كما انها لم تقبل باسقاط جنينها. مازالت تنتظر أن يكبر جنينها وتلده رغم مضي خمس سنوات على ذلك. رعتها والدتها وتحملت تقلباتها، حاولت كثيرا أن تحمي ابنتها من أن يتطور ما تعيشه وتصل للجنون حاولت مع بعض صديقاتها ارسالها الى طبيب نفسي. تدفعها امها للذهاب مع صديقاتها وان تعيش حياتها وتحتفل بعيد ميلادها، لكنها لم تستطع  أن  تتجاوز محنتها. سوسنة تتابع صديقها نورس وحكاية الجثة في بيته وتطورات الوضع وتتواصل معه عبر الفيس بوك وتدعمه نفسيا.

تنتهي حكاية مايا عندما تتأكد من موت حبيبها آدم وغرقه بالبحر وانها يجب ان تقبل الامر الواقع وان حملها قد ضاع ايضا…

هنا تنتهي الرواية…

في التعقيب عليها اقول:

إننا أمام رواية مختلفة، فالحدث يعاش في ذوات أبطاله و يكاد يكون الواقع اليومي شبه غائب، رغم أن الواقع الحياتي في حلب قبل الثورة السورية وبعدها بسنوات، لم يكن حدثا عاديا ليتم المرور عليه وكأنه لم يوجد. حلب ومشاركتها الثورة والصراع بين النظام والثوار وعصابات النهب والجهاديين من داعش والنصرة. تدمير أحياء من حلب وهجرة الملايين من أهلها. الضحايا والمصابين والمعتقلين بالآلاف، كل ذلك لا يسكت عنه. الا لمن انفصل عن الواقع وأصبح بحاجة لمعالج نفسي وعقلي. نعم نورس عاش تجربة حب مؤلمة وغادرته حبيبته وفقد جزء مهما من نفسه وتوازنه، كما أنه كان هامشيا في ما يعيشه السوريون وحلب ووصل لاحساس انه جثة فاقدة الحياة والإحساس بالمسؤولية مثل كثير من جثث الضحايا التي وجدت في نهر قويق وتحت الأنقاض وفي كل بلاد المأساة السورية، بيد النظام المجرم وداعميه. لذلك انهى حياته يوم لم يجد لها معنى ووجوده الذي أصبح زائدا والقى نفسه نهر قويق وفارق الحياة…

كذلك سوسنة التي لم تستطع أن تتجاوز محنتها بموت حبيبها الهارب من الموت، الحالم بحياة رائعه، الذي أكلته اسماك البحر وخسرت كذلك جنينها. لقد أصبحت على حافة الجنون، ولم تعد تجد في حياتها ما تستحق أن تعيش لأجله…

نعم هكذا أصاب الاذى الذي فعله النظام بحق الشعب السوري كله. فحتى من سكت عن ظلمه ومن برر له أفعاله. ومن احتمى بدعوى أنه من “أقليات” المجتمع السوري ومكوناته الحمية -كذبا- من النظام. لم يسلموا من الاذى و ذاقوا مرار ظلم النظام بحق الشعب السوري كله…

كان لابد أن يعي السوريين كلهم أن الثورة كانت حق ومشروعة لاسقاط الظلم والاستبداد المهيمن منذ عقود، وأن مطالب الشعب السوري بالكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل، تستحق الثورة والتضحية ….

١١ كانون أول ٢٠٢١م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى