لا حاجة للتعريف بصاحب الإسم أعلاه، أسامة البطانية، ففي غضون التدافع الكثيف للأخبار المتتابعة من سورية، مًرَق الخبر الذي ضجّت به وسائط الإعلام، أن أردنياً عُثر عليه في سجن صيدنايا، فاقداً ذاكرته، ثم سُئل عن اسمِه فأجاب إربد (قرأتُ أنه لا يحفظ سوى إربد وجمال عبد الناصر!). رجّح من عثروا عليه، ربما من سجلّاتٍ وقعوا عليها، أن اسمَه هو ذاك، وفور أن علمت سلطاتٌ أردنيةٌ مختصّةٌ بحكايته، تسلّمته، وأوصلته إلى أسرة أسامة البطانية التي تفتقده منذ 38 عاماً، فقد غادر إلى سورية (للتنزّه على ما تردّد)، في عام 1986، وكان عمره 17 عاماً. وأبهجت هذه “العودة” الأب (الوالدة متوفّاة وهو بلا إخوة)، غير أن فحوصاتٍ جينيةً ووراثيةً كان لا بد من إجرائها للاطمئنان إلى نسبة هذا الرجل إلى هذه الأسرة، ثم جاءت النتائج بالمفاجأة المثيرة، عدم صحّة انتسابه المفترض هذا. ما يستنفرُ أسئلة متجدّدة عمّن يكون هذا الرجل، وأين هو أسامة البطاينة إذن، وكيف يُستعاد. وقد ضاعف من مقادير الإثارة في هذه المحنة أن أسرةً سوريةً أعلنت أن فاقد الذاكرة قد يكون منها، وأن أسرةً لبنانيةً أخرى أشهرت هذا. وتالياً رجّحت أسرة أردنية (فلسطينية) في إربد أنه قد يكون من أبنائها. أمّا المحسوم في هذا كله فهو أن هذه الحكاية تتحدّى قرائح أهل الأدب ومخيّلاتهم، وكتّاب الرواية والقصّة تخصيصاً ربما، ولو كانوا في منزلة ماركيز أو بورخيس أو زكريا تامر، ذلك أن ما يجتمع فيها مما يفوق الخيال كثير، وفائق التصوّر. والراجح، من قبلُ ومن بعد، أن المحكيّات والمرويات عن ضحايا “صيدنايا” ومسالخ نظام الأسد في سجونه الرهيبة، الأحياء والأموات، ممن أمضوا عقوداً فيها، وتتوفر على غرائب وعجائب، تحتاج هيئات متخصّصة، مهنيّة، تجمعها وتوثقها، لتُذاع وتنشر، عساهم ناسُ الشعر والسرد والمسرح والتشكيل والدراما والسينما يلتقطون البعيد والعميق والجوهري ووالفجائعي والبليغ فيها، فيشخّصونها في أعمال إبداعية كبرى.
لبعضنا أن يجدها نافلةً هذه الحاشية التي تتيحها محنتا، الغائب أسامة البطانية والمعذب المنتهك فاقد الذاكرة والاسم، ومعهما محنُ أردنيين وفلسطينيين ولبنانيين وعراقيين كثيرين (ثمّة أعدادٌ لهم مقدّرةٌ لدى منظمّات أهلية ناشطة). ولكن حاشيةً أخرى ليست كذلك، تتعلّق بحزمة المسؤوليات عن الذي تعرّض له هؤلاء، بعد اختطافهم سنواتٍ وعقوداً، في مسالخ نظام الأسديْن. وإذا كان لا يحتاج إلى أي جدل أن هذا النظام الكريه هو مقترفُ هذا الإجرام، وأن من أولى أولويات أي سلطةٍ انتقاليةٍ أو غير انتقاليةٍ في سورية الجديدة مقاضاة كل مسؤول في أجهزة هذا النظام البوليسية، وتسبّب في كل الويلات اللاإنسانية التي ذاقها المستضعفون من سوريين وغيرهم في “صيدنايا” و”تدمر” وفروع أمنٍ ومخابراتٍ وحبسٍ واحتجازٍ بلا عدد، إذا كان هذا الأمر على هذا النحو من الوضوح، فإنه، في الموازاة، لا ينفي أن مقادير من المسؤولية تقع على الحكومات الأردنية والمؤسّسة الفلسطينية الرسمية والسلطات اللبنانية، لتهاونها في التعامل مع النظام السوري المخلوع بغير ما تستحقه هذه المآسي من تشدّد في المطالبات بأولئك الضحايا طوال هذه العقود.
ليس منسيّاً أن الملك الحسين كان يطلب من حافظ الأسد الإفراج عن السجينيْن الأردنييْن العتيقيْن، ضافي الجمعاني وحاكم الفايز، غير أنه ظلّ يرفض، قبل أن يفرج عنهما بعد أزيد من عقدين أمضياها في سجونه. وليس غائباً عن البال أن لجاناً نيابيةً في لبنان والأردن كانت تحث حكوماتهما على العمل الجدّي من أجل إنقاذ المظاليم اللبنانيين والأردنيين في السجون السورية، وبتّ أمر المفقودين والمختفين، غير أن الجهود الرسمية في الاتصال مع سلطات الأسد، الأب والابن، لم تكن بالمستوى اللازم. وفي البال أن الرئيس اللبناني السابق، ميشيل عون، حدّث نظيره بشّار الأسد في موضوع معتقلين ومختفين لبنانيين، غير أن الأخير، بكل صفاقة، كذب على محدّثه بعدم وجود أيٍّ من هؤلاء في سورية.
لنتذكّر أن عراقياً يحمل الجنسية البريطانية حُبس في سجون بشار، مطالع العام 2001، وما أن وصلت قضيته إلى السفارة البريطانية في دمشق حتى كانت أسرته في لندن، ثم جرى “إنقاذه” وتأمين سفره. … ثمّة حكايات أكثر من كثيرة عن امتثال حكوماتٍ عربية، من الخليج إلى المحيط، أمام طلبات سفارات وسلطات أميركية وأوروبية، لجلاء محكومين بالسجن (بقرارات قضائية) من المعتقلات. القصة، أو الحاشية هنا، أن منظمّة التحرير الفلسطينية والحكومات الأردنية واللبنانية (وغيرها) تساهلت كثيراً مع الأسديْن، فكانت محنة أسامة البطانية وسواها.
المصدر: العربي الجديد