قراءة في رواية :قمر حرّان – الشيخ والسلطان

أحمد العربي

ليث التل روائي اردني متميز له العديد من الروايات. روايته قمر حرّان – الشيخ والسلطان هي العمل الروائي الأول الذي أقرأه له.

تتحدث الرواية عن مرحلة مهمة من تاريخنا العربي الاسلامي. حيث يسلط الضوء على الصراع بين المماليك الحاكمين لبلاد الشام ومصر وصولا الى الحرمين الشريفين مكة والمدينة وكانت هذه الدولة قد ورثت الحكم عن الدولة الفاطمية التي امتد حكمها لقرون ايضا. وضعفت بعد نهاية حكم الحاكم بأمر الله الفاطمي وهيمنة قيادات أمراء المقاتلين المماليك بعد ذلك وتحول الخلفاء الفاطميين الى مجرد واجهة شرعية دينية وسياسية على أساس أن الخليفة يجب ان يكون قريشي ومن نسل الرسول ص. و تثبّت سيطرة المماليك وأصبحوا هم الحكام الحقيقيين وعلاقتهم رمزية مع الخليفة الذي كان مركز حكمه في القاهرة.

تبدأ الرواية من لحظة تاريخية معينة في عام ٧٠٢ هجرية حيث معركة مرج الصفّر في منطقة شقحب جنوب دمشق بين سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون في مواجهة الأمير التتري قائد جيوش التتر “قطلع” . كان بصحبة الجيش المملوكي العالم المسلم تقي الدين أحمد بن تيمية. كان يقاتل مع الجيش ويشد أزره. وانتهت المعركة بنصر جيش المماليك بقيادة الناصر بن قلاوون ومعه الشيخ تقي الدين بن تيمية. وذلك زمن الخليفة الفاطمي المستكفي.

الرواية التاريخية التي بين يدينا تغطي عبر ٤١٦ص امتداد تاريخي من عام ٧٠٢ إلى عام ٧٤٢ هجرية. حيث كل فصل يغطي سنة هجرية للحوادث المتعلقة بسياق الرواية.

ولأن الرواية مكثفة وممتلئة معلومات فقد اعتمدت في هذه القراءة ان اغطي أهم مفاصلها وما أرادت ان توصله لنا كقرّاء.

لم تكن معركة مرج الصفر منفصلة ما قبلها من الطمع التتري في بلادنا خاصة بعد ضعف الخلافة العباسية وانهيارها ثم ولادة الدولة الفاطمية ثم السيطرة للمماليك على الدولة. و الغزو التتري لبلادنا مع ما صاحبه من وحشية ودموية و قتل الناس وسبيهم وتدمير المدن والحواضر. كانوا قبل أربعين عاما من معركة مرج الصفر، وذلك في زمن هولاكو وقيادته قد دخلوا بغداد وتوجهوا بعدها إلى دمشق ومصر والتقى بهم السلطان المملوكي قطز في عين جالوت وهزمهم في معركة تاريخية وعادوا إلى بلادهم وانكفؤوا هناك. هذه معركة مرج الصفر التي انتصر بها المماليك بقيادة السلطان المملوكي محمد الناصر بن قلاوون وكان بصحبته الشيخ تقي الدين بن تيمية.

وفي وقت سابق كان السلطان قلاوون قد تابع محاربة التواجد التتري في بلاد الشام والعراق وكذلك التواجد الصليبي في مدن الساحل في بلاد الشام. وبعده تابع القيام بالتوسع وطرد الغزاة ابنه السلطان خليل الأخ الأكبر للسلطان محمد الناصر. ولكنه قُتل غيلة. مما جعل السلطنة تنتقل الى محمد الملقب الناصر وهو لم يصل الى عمر العشرين بعد.

لقد كان محمد قريبا من الشيخ تقي الدين بن تيمية و يستشيره في أمور الحكم والدين وحصلت بينهم علاقة تجاذب وتنابذ. كل يرى مصلحة المسلمين والدولة من منظاره. تارة يختلفون وتارة يتفقون.

لا بد من تسليط الضوء أكثر على الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية. هو في أصوله من مدينة حرّان وانتقل مع أهله منذ طفولته إلى دمشق. له عدد كبير من الاخوة. تميز منذ صغره بحافظته القوية وتعلقه بالتعليم الديني وكان يواظب على القراءة والاطلاع على أغلب العلوم الدينية وغير الدينية في زمانه. وصل الى وقت أصبح له رأيا يواجه به الآراء الدينية المعهودة في زمانه. اتخذ موقفا حادا من البدع الدخيلة على الإسلام وطالب بالعودة للأصول القرآن والسنة النبوية. واجه التطرف في التصوف. وانحراف بعضه عن الأصول الإسلامية. وحارب المشايخ الذين كانوا يتبعون ما يريد السلاطين حفاظا على مصالحهم ولو كان مخالفا للإسلام وضارا بالمسلمين. كان له الكثير من الفتاوى التي تختلف مع فتاوى سابقة ومعاصرة له في كثير من أمور المسلمين مثل موضوع الطلاق وغيره.

كتب تقي الدين احمد بن تيمية كثير من المجلدات في تفنيد الكثير من المعتقدات والأفكار في عصره بحيث لم يترك تقريبا موضوعا لم يقل رأيه به من منظوره كما يرى انه اقرب للقرآن والسنة.

كل ذلك الّب عليه رجال الدين والقضاة في زمانه واعتبروه خصما لهم. وخافوا من سحب البساط عن شرعيتهم أمام الحكام والسلاطين ونوابهم من أمراء البلاد. اكثروا الدس عليه عندهم ولذلك سجنوه كثيرا. وكان يعتبر سجنه خلوة للتعبد والعلم والعبادة والتأليف والاجتهاد ومجاهدة للنفس.

كان السلطان محمد الناصر بن قلاوون في صغره قريبا من تقي الدين بن تيمية واقتنع به واعتبره شيخه. كان يستشيره في كل شيء. ومع ذلك كان يحصل بعض الاختلاف بين العالم والسلطان ويسجن تقي الدين بن تيمية وسرعان ما تعود العلاقات الى أصلها الايجابي بين الاثنين.

كان تقي الدين مستقرا في دمشق والسلطان الناصر بن قلاوون في مصر. بن تيمية يرفض التقرب من الحكم والسلطة. كان يقول للسلطان “أنا رجل ملّة وأنت رجل حكم” وهذا يعني أنه لن يكون من حاشية السلطان والمطبلين والمزمرين. تقبل السلطان الناصر بن قلاوون ذلك. وكان بفضل سياسته المحافظة على مصلحة المسلمين والحفاظ على علاقة جيدة مع الشيخ تقي الدين احمد بن تيمية جعل حال المسلمين في زمانه جيدا. وكان لهما دور في الحفاظ على وحدة المسلمين ومواجهة الأعداء من التتر وغيرهم.

كان أشد أعداء المماليك في الفترة السابقة على زمن تقي الدين بن تيمية والناصر محمد بن قلاوون منذ زمن قطز وبعد قلاوون وخليل الأخ الأكبر للسلطان محمد الناصر الحاكم زمن تقي الدين بن تيمية هم التتر الذين حاربوا المماليك زمن السلطان قطز وهزموا كما اسلفنا في معركة عين جالوت قبل أربعين عاما من معركة مرج الصفّة التي انتصر بها السلطان الناصر بن قلاوون وكان بصحبته الشيخ تقي الدين بن تيمية. المهم هنا ان هولاكو وجيشه كانوا يحملون اعتقادات وثنية ذاك الوقت. وبعد موت هولاكو وتعاقب الحكم في ابنائه اعتنقوا الاسلام ولكن استمرت اعتقاداتهم السابقة حاضرة في إسلامهم الذي اعتنقوه. وعندما حاربوا في مرج الصفّر كانوا يدعون انهم مسلمين. وبعد هزيمتهم عادوا إلى بلادهم وحصلت فيهم تحولات دينية اخرى فأخذوا بالتدين “الرافضي” كنوع من التشيع بحيث يحصلوا على شرعية في مجتمعاتهم وحاولوا التأليف بين الشعوب والأمم التي يجتاحوها. لكن كل ذلك لم يكن يغير من حقيقة أنهم يعملون وفق عقائدهم السابقة او يخلطونها في الإسلام كنوع من التحريف والتشويه للإسلام. وان نزعتهم التوسعية التدميرية للبلاد التي يجتاحوها لم يتغير منها اي شيء. ولم يأخذوا من أخلاق الإسلام وقواعده في التعامل مع الناس والغير محاربين بالحسنى وبالتي هي أحسن ابدا.

لقد كان زمن الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية والسلطان الناصر محمد بن قلاوون نموذج للعلاقة الندّية بين رجل دين لا يخاف في الله لوم لائم عانى السجن والعداء والدسيسة والتآمر. وبين الحاكم السلطان الناصر بن قلاوون الذي كان يكن للشيخ تقي الدين بن تيمية الاحترام والإجلال يأخذ بنصيحته. ولكنه كان أحيانا يقع فريسة أنه الحاكم ومصلحة الحكم كما يراها فوق أي اعتبار لذلك اختلف في احيان عدّة مع تقي الدين بن تيمية . وأودعه السجن أكثر من مرّة.

ترك تقي الدين بن تيمية وراءه تلاميذ تحولوا علماء أفذاذ في التاريخ الإسلامي. ابن كثير والذهبي وابن الجوزية وغيرهم كثير.

كان أكثر ما خلّف في نفس السلطان محمد الناصر بن قلاوون حسرة هو وفاة الشيخ تقي الدين بن تيمية في السجن سنة ٧٢٨هجرية وعاش بعدها السلطان الناصر بن قلاوون بعد ذلك حتى عام ٧٤٠ هجرية وتوفى وقد كان يعاني كثيرا من أنه قد ظلم الشيخ بن تيمية أواخر حياته.

مات الشيخ تقي الدين بن تيمية بعد عمر أفناه في التعلم والتعليم و التدوين وكتابة الفتاوى والتصنيف لكتب كثيرة تطال كل موضوعات زمانه وعصره. وترك للمسلمين في زمانه وحتى الآن مكتبة فكرية مهمة جدا لا يمكن لأي مهتم وباحث بالشأن الاسلامي الا المرور عليها.

مات السلطان محمد الناصر بن قلاوون حيث أصابته في أواخر حياته هواجس كثيرة حول خيانات ودسائس تحيط به مما دفعه لقتل ابنه احمد بالسم. ومات بعدها وورثه ابنه بالسلطنة ودخل الحكم في دورة جديدة.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

ينتهي الكتاب الذي غطى أربعين عاما وما قبلها من أحداث بتكثيف قوي متماسك اعطى للرواية مصداقيتها التاريخية وقدرتها على تحويل التاريخ الى صيغة حياة معاشة باستعادة مفترضة ، أشخاصها الفاعلين في حياة مبتدعة تقارب ما حصل لأقصى درجة.

لا نستطيع الا ان نسقط الرواية تاريخيا على واقعنا المعاصر.

فمن جهة التعامل مع الدين الإسلامي فإننا في زماننا أصبحنا أمام اجتهادات كثيرة تصل إلى درجات التناقض. ووصلت حالة المسلمين بالتعلق المذهب والطائفة والحزب السياسي الديني الى درجة الصراع الفعلي وليس النظري. لم تعد المشكلة في أننا نأخذ بالإسلام بأصوله القرآن والسنة ووصلنا الى مرحلة عدم امكانية خلق توافق بالمعنى الديني بين هؤلاء المختلفين ولكل خلفياته المجتمعية وأسبابه لتبني ما يتبناه وقد تكون خارج موضوع الفهم الصحيح للإسلام بل يرتبط بالمصالح الشخصية او مصالح الفئات والجماعات والطوائف في سياق وجودهم المجتمعي الغير متوازن والغير عادل وأنهم ضحية استبداد مديد.

المطلوب في هذه المرحلة اسلاميا ان نعود لمقاصد الشريعة وأن الإسلام جاء للحفاظ على الدين والنفس والعرض والمال والعقل وتوسعت المقاصد لتصل لكل حاجات الانسان الاساسية ليعيش حياة حرّة عادلة كريمة. وأصبح ذلك مربوطا بعلم السياسة وأداء الوظيفة السياسية في مجتمع ديمقراطي شوروي يحترم حقوق الناس وفق دستور متوافق عليه ووفق قانون عادل وقضاء نزيه وان يتم التعامل مع كل مكونات الشعب بصفتهم مواطنين متساوين بغض النظر عن معتقداتهم وخلفياتهم المجتمعية على تنوعها.

الافضل ان يكون إيمان الإنسان ودينه مسألة شخصية وأن يكون كل الناس محكومين بما يتوافق عليه المجتمع وأن يتم احترام العقائد والتنوع لكل الناس.

وبذلك يكون دور رجل الدين في هذا العصر أن يقدم دوره التنويري في مجتمع متكافل متضامن وان يعملوا لنشر رؤى دينية ايجابية تساهم بالتوافق الاجتماعي والعمل لبناء الحياة الأفضل.

ويصبح الحاكم ممثلا ديمقراطيا للشعب عبر الانتخابات وانتخاب مجالس نيابية وأن يكون الحكم متداول وان يتم بناء نظام ديمقراطي دستوري تداولي وان يتم احترام المواطنة وتساوي كل الناس أمام القانون.

ولابد من إعادة النظر في واقع الصراع الدولي في عصرنا وكيف يتم تلبيس المصالح الاستعمارية العارية بإدعاءات دينية حيث جاء الصليبيون يوما لإنقاذ القدس احتلوا البلاد وقتلوا وسفكوا الدماء لأكثر من ثلاثة قرون. ثم عاد الغرب مجددا في أوائل القرن العشرين لاحتلال فلسطين تحت دعوى حماية اليهود واعادتهم لأرض الميعاد لهم كما يدعون. قتلوا الفلسطينيين وهجّروهم وقتلوا العرب وحاربوهم. وما زالوا للآن يوغلون في دم أهلنا في غزة.

وهاهم الفرس يركبون ادعاءاتهم الدينية في التشيع للقيام بدور استعماري جديد في بلادنا العربية. حيث تغلغلوا في أواسط الشيعة العرب وخلقوا مجموعات مسلحة تخدمهم. صنعوا حزب الله اللبناني والحشد الشعبي في العراق والزيديين في اليمن و النظام الوحشي الساقط مستغلين العلويين في سورية  في بناء امبراطوريتهم الفارسية الحديثة بادعاء انهم شيعة علي وأبنائه الأئمة.

لقد قاموا بدور تخريبي كبير في هذه البلدان. حاربوا كاذبين الصهاينة وسببوا دمار لبنان. واستعبد النظام الساقط بادعائه أنه يحمي مصالح العلويين في سورية خمسة عقود وأكثر.

ولكن:

ها هو الشعب السوري ينتصر على المستبدين ويسقط نظام الطغيان ويطرد حزب الله والمرتزقة الطائفيين ويحقق بداية إنشاء نظام توافق شعبي يحقق مصالح كل مكونات الشعب السوري. يعيد البناء ويحاسب المجرمين ويضع الإنسان المناسب في المكان المناسب. ويبني الدولة المراد بناؤها محققة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل لكل السوريين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى