في البداية لا بد من أن أقول لكم إن ما يحدث في سوريا سوف يسجله التاريخ البشري بوصفه حدثا استثنائيا لا يختلف كثيرا عن سقوط جدار برلين. ليس لأن لسوريا أهمية كبرى في السياسة العالمية وما يحدث فيها سوف يغير من موازين القوى في العالم، لكن لأن بنية النظام السوري كانت مصمتة تماما كما الجدار. ولم يكن من السهل بمكان خلخلتها ولو قليلا، وهذا ما جعل من هروب بشار الأسد وتحرير المدن السورية من قبضته حدثا عالميا بامتياز. إذ لم يكن أحد يتوقع أنه بعد أن مر ما يقارب أربعة عشر عاما من الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، وبعد أن تم التنكيل بها وهزيمتها، وبعد محاولات حديثة عربية ودولية للتطبيع مع النظام السوري السابق (يا إلهي صار لدينا نظام سابق)، وإعادة بشار الأسد إلى المجتمع الدولي، والبدء باستعادة العلاقات الدبلوماسية معه من قبل الغرب والعرب، أن يحصل ما حصل وينهار نظامه ويهرب هو مثل أي جبان خلال أيام لا تتعدى العشر.
ورغم أن صور قيصر عن شهداء سوريا تحت التعذيب في السجون والمعتقلات السورية كانت كافية لإسقاط النظام ومحاكمة رئيسه فورا في محكمة الجنايات الدولية. إلا أن شيئا لم يحدث سوى إصدار قانون عقوبات لم يكن له أي تأثير على مصير الأسد المجرم، بل على العكس كانت هناك محاولات دولية لتجنيبه العقوبات، وهذا سيبقى لطخة سوداء في تاريخ العدالة الدولية، (هو بكل حال ليس ناصعا). مثلما سيبقى لطخة سوداء في تواريخكم أنتم الذين دعمتم المجرم وخونتوا شعبه. وهنا يجب أن أذكركم بشجاعة كثير من الناشطين السوريين الشباب الذين لم يكفوا لحظة واحدة عن حضور الاجتماعات الدولية والتحدث عن إجرام الأسد، لهؤلاء فضل كبير على سوريا والسوريين، كانوا هم صوت الضحايا دائما وأبدا لدى المجتمع الدولي. ورغم فظاعة صور قيصر لكن الفيديوهات التي انتشرت عند تحرير السجناء والمعتقلين من سجون النظام كانت بمنزلة الصدمة حتى للسوريين الذين قالوا إنهم لا يعرفون شيئا عنها (مضطرون لتصديقهم). وكان يجب أن تكون كافية لكم إخوتنا العرب لكي تتمكنوا قليلا من معرفة ماذا كان يختبئ في “سورية الأسد” الذي يرى كثر منكم أن سقوطه تم لأنه كان مقاوما وممانعا لإسرائيل.
أعزائي، المثقفين العرب. أنا أبلغ الآن الستين من عمري، لم أعرف خلالها رئيسا خارج آل الأسد، كنت أشتهي أن أسمع جملة (رئيس سوري سابق)، حتى حين مات حافظ الأسد أطلقوا عليه لقب الرئيس الخالد وورثوا الحكم لابنه، هكذا أصبح رئيسا أبديا، ليس من فراغ أن أحد أهم شعارات الثورة السورية في عام 2011 كان الشعار التالي (ما في للأبد ما في للأبد عاشت سوريا ويسقط الأسد). حاول السوريون خلال أربعة عشر عاما كسر هذا الأبد، حاولوا فتح جدار به، فلم يبق أحد إلا ووقف في طريقهم، في هذه الأثناء كان الأسد يقتل ويدمر ويهجر ويشرد يدعمه في ذلك حزبكم المفضل (حزب الله) الذي دخل سوريا وقتل السوريين وهو
يردد الشعارات الطائفية التي استطاعت أن تعزز حقدا طائفيا مسموما لا يشبه المجتمع السوري، لم يكترث أحد منكم بكل تلك المجازر، لم ير أحدكم كيف كان يفتك بالسوريين تحت راية (المقاومة) التي تحبونها وتقدسونها. للأسف أن بسطاء الشعوب العربية كانت أكثر رأفة ورحمة وفهما للسوريين ومصيرهم المؤسف منكم أنتم النخب المثقفة، التي يفترض بها فهم سيكولوجية الشعوب والحكام ويفترض بها وضع قيمة الحرية والديموقراطية فوق أية قيمة، وإذ بكم تنحازون للطغيان دون تردد. لا بأس، أنتم أحرار بما تفكرون وهذا سوف تذكره تواريخكم القادمة؛ الآن سوريا تحررت من الطغيان، ومن قام بهذا هم سوريون بالكامل، ليس بينهم من هو غير سوري، هؤلاء إسلاميون نحن نعرف ذلك، لكنهم يشبهون بيئاتهم التي لم يترك آل الأسد وسيلة للفتك بها وتهميشها وتجهليها وإقصائها إلا وفعلها. كانوا يوما جهاديين أيضا نعرف ذلك، لكن هل حزب الله الذي تبجلونه لم يكن إسلاميا وجهاديا؟ لن أذكر حركة حماس ذلك أنها لم تتدخل بأي شأن خارج الشأن الفلسطيني ولم تؤجر بندقيتها لأي طاغية أو نظام كما فعل حزب الله. من حرروا سوريا هم سوريون، تسألوننا دون خجل عمن وراءهم ومن يمولهم ومن يسلحهم، دعوني أسألكم من كان وراء حزب الله ومن موله ومن سلحه؟ ودعوني أسالكم أيضا من يمول جيوشكم الوطنية وحكوماتكم الغارقة بالديون ومن يسلح جيوشها وعنصر أمنها؟ هل يمكنكم الإجابة عن ذلك؟ أعرف أنكم لن تجيبوا عن هذه الأسئلة لأن الإجابة قد تدمر قناعاتكم وبدهيات لديكم ترفضون تغييرها لا لشيء إلا لأنكم أكثر كسلا من إعادة تقييم قناعاتكم وبديهياتمكم ومناقشتها بينكم وبين أنفسكم، وهذا ينفي عنكم صفة النخبة التقدمية أو التنويرية التي تدعونها، ذلك أن التنوير يقتضي إعادة تفكيك البديهيات بناء تحديث المعطيات الزمنية. وفي الحقيقة دعوني أقول لكم إننا نحن السوريين لسنا معنيين بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحونها إلا بقدر عنايتكم أنتم بالإجابة عن الأسئلة التي طرحتها عليكم الآن، ليس لأننا كسالى ونخاف من الإجابة بل لأننا نحتاج وقتنا لنشفى مما ألمّ بنا، لتشفى أرواحنا وضمائرنا وذاكرتنا ووجداننا من التلوث الذي لم يتوقف نظام الأسد عن تسميمنا به. بحاجة لأن تشفى قلوبنا من القهر الطويل، ولأن نتكاتف حاليا لتحمل الكوارث التي تظهر تباعا ليس فقط في المعتقلات والسجون بل أيضا في بنية المجتمع السوري الذي دمره آل الأسد وحلفاؤهم من الميليشيات الطائفية (المقاومة).
أعزائي المثقفين العرب. سوريا تمر بمرحلة تغيير عظيمة..ليست سهلة على شعبها الذي عاش طويلا في حفرة تشبه ما ترونه الآن عن سجن صيدنايا. لم يكن ما فوق الأرض أفضل كثيرا مما تحته. كل ما حدث من فوضى في الأيام القليلة والتي تنشرونها على صفحاتكم كما لو أنها دلائل على ما سيلي مرحلة الأسد (وهي بطبيعة الحال قليلة جدا بالنسبة إلى عملية تغيير كهذه وتحدث في كل العالم، ربما أذكركم هنا كيف كسر الفرنسيون المحال ونهبوها في الاحتجاجات الأخيرة قبل عامين في كل فرنسا) وكذلك الاستباحة الإسرائيلية وسرقتها للأراضي السورية يتحمل مسؤوليته النظام البائد الفاجر. لا السوريون، لا الشعب ولا القادة العسكريون الذين أسقطوا الأسد. تتكلمون عن السوريين كما لو أنهم قصّر وأغبياء ومتآمرين وعملاء وبائعين للقضية، تتهمونهم باتهامات عجيبة وغريبة وتستكرون عليهم احتفالاتهم في كل سوريا التي رأيتمونها على الشاشات كلها في كل محافظاتهم ومن
كل طوائفهم وفي كل مكان في العالم خارج سوريا، تستكرون عليهم هذا الفرح بالخلاص دون أن يخطر لكم أنهم يرضون بكل ما سيأتي مادام سينجيهم من الجحيم الذي يعيشون فيه. ودعوني أشكركم باسم السوريين، إن سمحوا لي بذلك، على حرصكم على مستقبل سوريا ومخاوفكم من القادم وأخبركم أن لدى السوريين مثلها، لكنني مثل كل السوريين لن أقبل الاتهامات التي تطلقونها علينا وسوف أحاججكم بها واحدا واحدا، وسأضحك من المطالبات التعجيزية التي تطلبونها من شعب لم يمض على تحريره من قبضة الطاغية سوى ساعات، هل تعون فعلا طلباتكم من السوريين أن يذهبوا لتحرير غزة اليوم؟ هل ذهبتم أنتم؟ هل ذهبت جيوشكم؟ هل ذهب أبناؤكم؟ لماذا تطلبون هذا من السوريين الآن؟ أليس هذا غريبا حقا؟ دعوني أطمئنكم، ولو أنكم لا تستحقون الالتفات إليكم: نحن السوريين نعمل جميعا اليوم على التكاتف وبناء الثقة بعضنا ببعض. نحن نسعى لأن ننظر الى الماضي بوصفه تجربة مريرة دفعنا ثمنها جميعا من كل فئاتنا وانتماءاتنا. نحن نريد اليوم استعادة الإيمان أن سوريا لنا جميعا. لأبنائنا ولمستقبل أبنائنا، لم تنقصنا يوما المهارات ولا الخيال ولا المبادرات ولا الكوادر. كانت تنقصنا الحرية التي تتيح لكل هذا أن يظهر. نحن، السوريين، شعب مثل كل الشعوب التي عانت طويلا من الاستبداد. تغلغل الفساد في نفوس كثير منا؛ لكننا نريد أن نتعاهد على أن يبدأ كل منا بنفسه وأن نكون جميعا مستعدين لأن نتغير من أجل سوريا. سوريا هي قضيتنا الآن، سوريا بلادنا الوحيدة والنهائية، وطننا الجميل وقضيتنا الأنبل، هذا لا يعني أننا نسينا قضايا إخوتنا العرب وأولها فلسطين، لكن من لم يكن حرا لن يتمكن من دعم أية قضية أخرى بشكل حقيقي وفعال بعيدا عن الشعارات التي أدمنتموها. كان لسوريا الثورة والانتصار دائما أصدقاء مثقفين ونخب من عالمنا العربي، هؤلاء تشاركوا معنا نحن السوريين كل شيء، هؤلاء المتسقين الواضحين لهم في هذا الانتصار مثلما لكل سوري منا، خونتموهم أيضا وشككتم بوطنيتهم كما فعلتم معنا. ذكرتهم هنا ليس فقط لأنهم يستحقون الامتنان لإيمانهم بنا بسيلة هذه السنوات الصعبة بل لأنهم النقيض الأوضح لفصامكم. عاشت سوريا حرة وعاش شعبها موحدا.
المصدر: تلفزيون سوريا