بضعة أيام فقط صدمت العالم

أحمد عيشة

خلال بضعة أيام فقط بدأ أوّلها، في 27 تشرين الثاني الفائت، تمكّن مقاتلو فصائل المعارضة المسلّحة من تحرير مدينة حلب، ورفعوا علم الثورة في قلب المدينة وفي أكثر من مكان، وهي المدينة التي استغرق النظام، بمشاركة روسية وإيرانية مباشرة، أربعة أعوام -من عام 2012 حتى 2016- لإعادة احتلال القسم الذي سيطر عليه الثوار من مدينة حلب، تلك الاستعادة التي كانت بمنزلة لحظة فاصلة في سيطرة الأسد على البلاد.

ما بين احتلال حلب وتدميرها عام 2016 من قبل النظام، واستعادتها (تحريرها) من قبل قوات المعارضة، حدثت تغيرات مهمة، رغم كل الفظائع التي ارتكبها النظام وداعموه وحالة الضعف والتشرذم والتقاتل التي عاشتها قوى المعارضة، وقد استفادت من تلك التغيرات جيداً (ربما كانت أكثر الخيارات دقة) لتلحق بنظام الأسد وميليشيات إيران هزيمة ساحقة، مشكّلةً لحظة فاصلة في تاريخ سوريا وثورتها، لحظة فتحت الباب نحو تجدد الأمل بسوريا حرة كريمة بعد سنوات من اليأس.

ببساطة، كشفت العملية هذه، أن جيش الأسد هو واجهة لا أكثر، فمن كان يحميه هم عشرات الآلاف من الميليشيات الإيرانية، وفي مقدمتها حزب الله، إضافة إلى الحرس الثوري الإيراني، وفي الجوّ، كانت الطائرات الروسية ترتكب الفظائع.

ولم تعد تلك الميليشيات تخوض المعارك، هذه المرة، فقد تعرّض حزب الله (العصب المركزي) لضربة قاسية موجعة خسر فيها معظم قياداته، وما يقدر بنحو (4000) مقاتل، ناهيك عن حالة الضياع التي يعيشها اليوم والتي نتجت عن تلك الضربات، كما فقدت إيران كثيراً من كبار قادتها في سوريا، بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية دافعة إيران نحو موقف دفاعي، حيث فشلت تماماً في الرد على ضربات إسرائيل التي طالت عمق أراضيها، كل هذا مهّد لانهيار خطوط دفاع النظام بسرعةٍ لا مثيل لها، لدرجة لا يمكن لأي أحد أن يتوقع سقوط حلب ضمن تلك فترة الأربعة أيام.

أمّا روسيا، التي تصوّر نفسها كقوة عظمى، فلم تتمكّن خلال ثلاثة أعوام تقريباً (منذ شباط 2022) من تحقيق ما تصبو إليه سوى الدمار والتهجير (بلغ عدد المهجرين الأوكران حوالي 8 مليون في الداخل ومثلهم في الخارج)، ولم تستطع أن تفرض حلاً يقرّ بسيطرتها على المساحة التي احتلتها حتى اليوم، وهي 20% من مساحة أوكرانيا، ولا أن تنجح في فرض ممثليها على العالم، حيث لا تزال تُصنّف دولة محتلة.

معظم تركيبة قوات المعارضة العسكرية من الشباب بين العشرينيات حتى الأربعينيات من أعمارهم، وفئة العشرينيات، أي أنهم كانوا لحظة انفجار الثورة في عقدهم الأول بين (10 -15) عاماً، تهجّروا أكثر من مرة من بيوتهم، شباب عانوا الأمرّين في مخيمات التهجير من حيث ظروف القهر على المستويات كلها..

ونتيجة لذلك سحبت روسيا آلاف القوات من سوريا، وقد باتت تشعر بالإحباط إزاء رفض الأسد التصالح مع الرئيس التركي، نتيجة للضغوط الإيرانية (القوى البرية + الاقتصاد والتمويل).. هذا التصالح أو التقارب الذي يمثل أولوية روسية، كل هذا دفع روسيا إلى التخلي الجزئي عن هذا النظام، وبدت تصريحاتها الرسمية غير مبالية تقريباً بحيث تجبره على قبول الأوامر.

ثمة عامل مهم وأساسي في هذا التقدّم، فمعظم تركيبة قوات المعارضة العسكرية من الشباب بين العشرينيات حتى الأربعينيات من أعمارهم، وفئة العشرينيات، أي أنهم كانوا لحظة انفجار الثورة في عقدهم الأول بين (10 -15) عاماً، تهجّروا أكثر من مرة من بيوتهم، شباب عانوا الأمرّين في مخيمات التهجير من حيث ظروف القهر على المستويات كلها، فرضعوا البأس بعد اليأس، ومنهم من رأى أشلاء أهله تتطاير في السماء بفعل ثلاثي الوحشية (روسيا وإيران والنظام الأسدي)، وقد تميزوا بصلابتهم وتصميمهم على دحر الأسديين وداعميهم، وخاصة الميليشيات الإيرانية التي كانت السبب في كل معاناتهم، إضافة إلى الشباب الذين شاركوا في الثورة منذ بدايتها، ولا يزال حلم الثورة الأول يسكن في قلوبهم وعقولهم.

والعامل الآخر هو التحوّل الإيجابي في أعداد وجاهزية وانضباط المقاتلين، فرغم حالة التشرذم القائمة، فإنّ تلك الفصائل وخاصة هيئة تحرير الشام، قد تلقّوا تدريباً عسكرياً متنوعاً وعالي المستوى، فقد عملوا على إضفاء الطابع المهني على القوات، وأنشؤوا كليات عسكرية للتدريب من قبل ضباط منشقين، تدريب في مختلف صنوف القتال، ومنها استخدام الطائرات المسيرة التي تلعب اليوم دوراً رائداً في ملاحقة قوات النظام والميليشيات، فلم تعد كما كانت مجموعة من المسلحين المتفرقين كما كانوا من قبل على الأقل في معركة اليوم.

يضاف إلى الحالة العسكرية تجربة الحكم المدني المنفتح نسبياً الذي تقوده هيئة تحرير الشام التي أكسبتها خبرة إدارية تتجاوز حالتها كفصيل مؤدلج، كونها تسعى أو تحلم بحكم البلاد، هذا السعي أو الحلم دفعها إلى تجاوز بعض المحددات العقائدية، وخاصة من أجل التخلص من تصنيفها كفصيل إرهابي.

تبقى أمام الفصائل، وخاصة هيئة تحرير الشام، في عملهم البطولي هذا تحديات كبرى، أهمها على الصعيد العسكري، وهو الضربات الجوية، سواء من روسيا أو النظام، بما تسبب من خسائر كبيرة بين المدنيين بغاية خلق نقمة منهم تجاه الفصائل، إضافة إلى سعي الميليشيات الإيرانية إلى إعادة تجميع نفسها، وشنّ هجوم جديد خاصة بعد توسع المساحة المحررة، إضافة إلى ما يمكن أن تقدّمه، وتشارك به ميليشيا “حزب الاتحاد الديمقراطي”، التي تثبت كل مرة أنها رهينة الاستبداد.

والتحدي الآخر هو التفاهم مع حلب، فحلب ثاني أكبر مدينة في سوريا، وهي “مركز” التجارة والاقتصاد، فضلاً عن دورها الحضاري والثقافي والعلمي، لكنها مدينة ذات مزاج خاص، خاصة بعد الضربة الكبرى التي تلقتها في الثمانينيات على يد قوات النظام الأسدي، الضربة التي طالت معظم البيوت فخلقت أثراً سلبياً، عمق المزاج الباحث عن المصلحة الذاتية والابتعاد عن الهمّ العام، و”شوفة” الحال على ريفها الذي شغل أبناؤه كثيراً من الوظائف العامة، ومنها إدلب التي ينظر إليها كثير من الحلبيين على أنها “منطقة” تابعة لحلب.

أصبح جيش النظام هيكلاً بلا رأس ولا روح بسبب سنوات من حربه ضد السوريين، إذ لم يعد لدى الجنود أي دافع للقتال دفاعاً عن نظام مجرم وفاسد..

كان اقتناص اللحظة التي بدأت فيها فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام لبدء هجومها على مناطق سيطرة الأسد مهمة جداً كاستثمار وإدراك للحالة السياسية الدولية والعسكرية التي يعيشها نظام الأسد وحلفاؤه، وخاصة زبانية إيران، فقد تلقت تلك الميليشيات ضربات موجعة خلال الأشهر الماضية، ضربات طالت حزب الله طولاً وعرضاً، من أصغر مقاتليه حتى زعيمهم الذي كان يهدد بإصبعه وهو يرسم طريق القدس عبر أشلاء السوريين، فكشفت هشاشة هذا التنظيم واختراقه الأمني، إضافة إلى الضربات التي طالت حتى العمق الإيراني، وقد أصبح رده على “عدوّه” الاستراتيجي سخرية بين أتباعه قبل خصومه، إضافة إلى حالة التشتت الروسي بين سوريا وأوكرانيا، كل هذا أفقد نظام الأسد سنداً أساسياً في معركته ضد السوريين، إن لم نقل القوة الأكبر في مواجهتهم وتهجيرهم.

لقد أصبح جيش النظام هيكلاً بلا رأس ولا روح بسبب سنوات من حربه ضد السوريين، إذ لم يعد لدى الجنود أي دافع للقتال دفاعاً عن نظام مجرم وفاسد، وربما يفسر هذا الانهيار السريع في حلب.

انطلقت معركة الخلاص من نظام الأسد والميليشيات الطائفية اللذين يشكّلان العائق الأساسي لحرية وكرامة السوريين، فكان تحرير حلب بدايتها، هذه البداية التي دفعت نحو مناطق أخرى من سوريا، التي يحلم الجميع بالعيش فيها بحرية وكرامة.

ورغم كل التحديات والمخاطر والتخوف من تجربة الهيئة وخاصة فيما يخص الحريات، لكن نافذة الأمل شرّعت أبوابها، ولا بد من العمل على توسيعها بدلاً من التخوف من احتمالات إغلاقها، إنها معركة تستحق أن تخاض.

المصدر: تلفزيون سوريا

زر الذهاب إلى الأعلى