استطاعت ضغوط إعلامية ونفسية شديدة ومتواصلة على عقل وتفكير اللبنانيين، تمارسها منظومة إعلامية متكاملة؛ تركيز أنتباههم على جانب وحيد من جوانب الأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان المجتمع والدولة ومؤسساتها..لم يترك الإعلام المتفرع عن النفوذ الغربي – الأمريكي ومن يدور في فلكه من إعلام محلي ، فسحة من الحرية تسمح لعقول اللبنانيين برؤية صورة متكاملة للمشهد اللبناني ..فباتوا لا يرون إلا ذلك الجانب الأوحد المتعلق بإيران ونفوذ حزب ألله في الشأن اللبناني..وراحوا يحملونه مسؤولية كل التردي الحاصل في عمل الدولة وسلطاتها ومؤسساتها..مؤدى هذا التعامي أو التغافل المتعمد عن الجوانب الأخرى المكملة لصورة الوضع كما هو وبما فيه من فعل مؤثر لأطراف أخرى..ثم الإنسياق وراء الرؤية الأميركية للأمور بصورة تلقائية لا إرادية بحكم الضغوط الإعلامية والتوجيهية…وكان من نتيجة هذه الرؤية أحادية الجانب أن إنقسم اللبنانيون إلى فريقين يتمحور فكرهما وتوجهاتهما حول إيران :
فريق مؤيد لها مرتبط بها عقائديا وبسبب من شدة الضغوط المقابلة يزداد إرتماؤه في الحضن الإيراني كحصن وحيد لحمايته والإبقاء على نفوذه ووجوده..وكان حزب الله طليعة هذا الفريق ومحوره وقائده..
أما الفريق الثاني المقابل فيتركز إهتمامه أيضا حول إيران ولكن من باب المعارضة ورفض نفوذها في لبنان وتحميلها مسؤولية إنهيار الدولة..
ومن الموضوعية القول أن كلا الفريقين يعانيان من إحادية الرؤية التي تضعهما في الموقع المتعثر غير القادر على إيصال الوضع اللبناني إلى بر الأمان..لا بل من اللازم القول أنهما معا مسؤولان عن التدهور الحاصل وبالتالي فليسا مؤهلين لمهمة الإنقاذ وبناء الدولة وتحقيق السيادة الوطنية ومن ثم الأمن والأمان المطلوبين..
إن تدهور وشلل مؤسسات الدولة عائد أساسا لطبيعة نظام المحاصصة وفساده بوجود حزب الله أو بدونه..
وعلى الرغم من الهيمنة التي مارسها الحزب على السياسة الداخلية اللبنانية في العقدين الأخيرين ، إلا أن وظائف مؤسسات الدولية لم تكن فاعلة بل كانت خاضعة لهيمنة أطراف لبنانية أخرى وتحت وصاية الوجود العسكري للنظام السوري..
أما من يناهضون هيمنة حزب الله ومن خلفه إيران مطالبين ب ” تحرير الدولة ” ويصفون أنفسهم ب ” السياديين ” فهم يعانون من مشكلتين إثنتين لا تمكنهما من تحقيق السيادة وبناء دولة العدل والقانون :
# الأولى : أنهم أطراف أساسية في نظام المحاصصة الطائفية ..مشاركون بفعالية في حمايته وفساده والإستفادة من موارده..ولم يكونوا يوما منزهين عن المشاركة في صفقات الفساد والنهب والعدوان على أموال وأملاك المواطنين والدولة معا..
# الثانية : أنهم هم ذواتهم من أتباع النفوذ الأجنبي وتحديدا الأميركي..ولا يخفون مقاصدهم حينما يطالبون بإنهاء إحتواء حزب الله لمؤسسات الدولة ؛ مستعينين بالغرب وتحديدا الولايات المتحدة..فهم يريدون إستبدال هيمنة أضعفت نفوذهم وقلصت حصصهم ومنافعهم لصالح هيمنة أجنبية أخرى يستفيدون منها ويفعلون نفوذهم من خلالها وبدعمها ..هيمنة جديدة كسابقتها بل ربما اسوا بكثير حيث لا سيادة وطنية ولا سيادة عدل وقانون بل تسلط النفوذ الأجنبي وأدواته المحلية على القرار الرسمي وعلى التوجهات العامة للدولة ومؤسساتها في كافة المجالات السيادية : سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية أيضا..هيمنة أمريكية – غربية يدخل في صلبها الشؤون الإعلامية والتربوية والتعليمية والإنسانية أيضا..مع إختلاف جوهري اساسي جدا هو إنتفاء أي حديث عن خطر صهيوني على لبنان ولو حتى لمجرد الكلام والشرح والتوعية بأطماع دولة الكيان وخطرها على السيادة الوطنية..
كل هذا يتم في غياب تام لأي مشروع وطني أو أية رؤية وطنية تعيد صياغة المستقبل ومفاهيم السيادة والهوية ودولة المؤسسات والقانون في إطار تصور عام شامل للوضع اللبناني والتحديات التي تواجهه ؛ والمطلوب وطنيا للإنتقال إلى تغيير إيجابي يحرر الوطن والمواطن ويحميهما معا..
يتبين من الوقائع والاحداث والطروحات والمشاريع السياسية المطروحة أنها جميعا تسقط موضوع هوية لبنان من الإعتبار ومن الحساب..إن جميع الاطراف الفاعلة والمؤثرة في الأحداث لا تعترف بهوية عربية للبنان..يتساوى في هذا مؤيدو الوصاية الإيرانية ومؤيدو الوصاية الغربية والأميركية..يضاف إليهم مؤيدو الوصاية التركية تحت شعارات دينية إسلامية كإستعادة دولة الخلافة وهكذا..
اما أوساط الفريق ” السيادي ” فيعانون من أزمتين تجعلهم في مواقع مضطربة يتحصنون فيها بالنفوذ الأجنبي من جهة وبالتقوقع الداخلي من جهة ثانية ..وهي سبب ما يعيشون فيه من مشكلات على صعيد المشروع السياسي وطبيعة التحديات وماهية لبنان الوطن ومن هم اعداؤه…
# أزمتهم الأولى أنهم لا يعترفون بهوية لبنان العربية ..وفيما مضى علت أصوات كثيرة تعتبر ذاتها جزءا من حضارة الغرب المسيحية..وحينما تخلى الغرب الاوروبي عن مشروعهم الطائفي التقسيمي بفعل النفوذ الصهيوني المستجد ، إنتقل قسم منهم لبناء علاقة طيبة مع دولة الصهاينة مستنجدين بها تحت ذريعة مواجهة الخطر العربي وحماية الوجود المسيحي..وعلى ما يبدو ان بعضا من هؤلاء لا يزال يكن ودا وصداقة للعدو الصهيوني تحت ذات المبررات..وإن تكن حاليا صداقة بعيدة عن الضجيج الإعلامي..
وللإنصاف فإن أصواتا كثيرة في الفريق ” السيادي ” تعلو مستنكرة التنكر للعرب والعروبة وإن كان لدوافع مصلحية تتمثل في حاجة لبنان للدعم العربي ولوجود آلاف اللبنانيين العاملين في دول الخليج العربي وهم يشكلون رافدا إقتصاديا وماليا داعما لأهاليهم في الوطن..
# أما أزمتهم الثانية فتتفرع من الأولى وتجعلهم يرون في دولة ” إسرائيل ” ك جارة يمكن التعامل الطبيعي معها لا بل الإستعانة بها لتحقيق عوائد مفيدة ووجودية لهم في مواجهة أخطار آتية من جهات عربية أو إسلامية متنوعة..
ونظرا لوجود هاتين الأزمتين فإن الآستعانة بالرعاية الدولية الغربية – الأميركية تصبح في نظرهم مطلبا منطقيا وموضوعيا يبنى عليه ويستنجد به..فيجاهرون بها ويقدمونها كحل إنقاذي للبنان..
إن مجريات الأحداث الراهنة ووقائعها تبين بوضوح أن المستقبل اللبناني سيبقى مرهونا بالرعاية الأميركية – الغربية مع ما يعني هذا من غياب السيادة الوطنية وغياب دولة المؤسسات والعدل والقانون..سواء تمت إزاحة حزب الله ونفوذه عن الداخل اللبناني أم لم تتم..ولا نتوقع لها أن تتم..حتى في ظل الوصاية الأمريكية والغربية الراهنة والمقبلة..
فقد تمت هيمنة الحزب على مؤسسات الدولة – أساسا – بتسهيل بل ورعاية من النفوذ الأجنبي وتحديدا الأمريكي ..وبقيت كذلك طوال السنوات الماضية وتجلت حتى خارج حدود لبنان في كل من العراق وسورية .. فالعيون الأمريكية لم تكن غائبة أبدا حينما تدخلت ميليشيات إيران ومنها حزب الله لمساندة النظام السوري وقمع إنتفاضة شعب سورية المطالب بالحرية ودولة المواطنة والقانون..بل أن المشروع الأمريكي لسورية العربية كان بحاجة الدور الإيراني فيها لأكثر من سبب وذاك حديث آخر..اما في العراق فالتناغم كان أكثر وضوحا وفاعلية..فالولايات المتحدة التي غزت العراق فإحتلته هي التي سلمته لأدوات المشروع الإيراني تستكمل فيه ما تريده هي من تخريب وتدمير وتفتيت مجتمعي وتفخيخ عروبته وإلحاقه بالأطماع الإيرانية..
ويبقى السؤال المصيري : هل إستحال التغيير الإيجابي الحقيقي في لبنان ؟؟
ومع الأهمية القصوى لإزالة كل أنواع الوصاية على الدولة اللبنانية ومؤسساتها ؛ تبقى التغييرات التي أحدثها إتفاق الطائف لجهة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتحويلها إلى مجلس الوزراء مجتمعا ؛ عائقا رئيسيا أمام إستعادة فعالية عمل المؤسسات الرسمية ..إذ أنها تبقي على إمكانية التعطيل الذاتي من قبل أي طرف من أطراف نظام المحاصصة لكل عمل الحكومة والمؤسسات التنفيذية ..وذلك تحت بند ما يسمى بالثلث المعطل..وهذا بنص دستور الطائف الذي وضع بهذه الصيغة بذور إضمحلال الدولة بذلك التوزيع العجيب للصلاحيات الرئاسية المركزية..مما يماثل دستور برايمر في العراق الذي نص على تكوين تحاصصي مماثل للسلطات المركزية وبنية الدولة الأمر الذي كان إطلاقا لعملية تخريب العراق ونهبه وهيمنة الأفاقين المأجورين المرتزقة عليه..
وفي ظل الأوضاع الراهنة على ساحة الوطن الصغير لبنان : حيث لا يتوفر مشروع وطني لبناني فاعل متماسك تجسده قوة وطنية لبنانية قادرة على التأثير في الواقع ، وحيث لا دور عربي فاعل ومؤثر يتعامل وفق رؤية عربية واضحة تنطلق من وحدة المصير العربي ومن تكامل الأمن العربي ؛ لا تبدو في الأفق إمكانية عملية لإنقاذ لبنان من الوصايات الأجنبية..
إن واقع لبنان كدولة محاذية لفلسطين المحتلة يجعله محط أنظار الجهات التي تتبنى أمن دولة الكيان الصهيوني كأولوية قصوى لديها ، وفي مقدمتها أمريكا ؛ وفي ذات الوقت كل قوة إقليمية طامعة بالتوسع على حساب الوجود العربي وفي مقدمتها إيران..
المصدر: كل العرب