ثمة مثل يردّده الأميركيون اللاتينيون “عندما تفرض عليك الحرب لا تتردّد، أطلق النار ثم اكتشف لاحقاً النتيجة”. في ساعة إطلاق “طوفان الأقصى” تردّد حزب الله في مساندة حركة حماس عملياً. تلك كانت خطيئته الأولى مع أنه كان روّج شعار “وحدة الساحات”، وقد تنكّب عن ذلك، لأن إيران لم تكن ترغب في الإسناد العسكري المباشر لغزة، ولها أسبابها، أمنها القومي، وبرنامجها النووي، ومشروعها الإقليمي، لكن عينها كانت على فكرة استغلال اللحظة الاقليمية، والبحث عن دور. تفاوضت، وراوغت، ووعدت، وتوعّدت، وفي آخر المطاف ظلت في منأى عن النار، وهذا حقها دولةً لها مصالحها وأهدافها وخططها الاستراتيجية الخاصة. وظل حزب الله، هو الآخر، مبرّراً، ومهدّداً، ومتوعداً، وإن نفذ ضربات محدودة، كي يبرّئ ذمته، استهدفت أرضاً لبنانية- سورية محتلة (مزارع شبعا).
حضرت الولايات المتحدة إلى المنطقة على وجه السرعة، ومعها آلتها العسكرية الضخمة، وفتحت خزائنها أمام إسرائيل لتغرف منها كما تشاء، كما أمدّتها بكل ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه، ثم حذّرت إيران وأذرعها من أن تفكّر في زج نفسها في الصراع. أما العرب فلم يكونوا في وارد أن يفعلوا شيئاً، إنما ظلوا في واجب التحضير لاجتماع يعقده وزراء الخارجية ليقولوا فيه ما قالوه من قبل. وجدت إسرائيل، من ناحيتها، الفرصة سانحة أمامها، والمسرح مفتوحاً، زجّت كل وحشيتها ضد أهل غزّة، ولم يقف أمامها عائق. شعرت بعد أمدٍ أنها أنجزت الصفحة الأولى من حربها الشريرة، وأن عليها أن تفتح صفحة أخرى، وكان أن توجّهت نحو جبهة لبنان لقطع الطريق على أية إمكانية لعمل عسكري مؤثر قد يفكّر فيه حزب الله. وسعت إلى تحجيم دوره. ومرّة أخرى، تردّد حزب الله لأن القرار ليس بيده. وهنا ضربت إسرائيل تنظيم الحزب في العمق، وكانت عملية أجهزة “البيجر” التي قتلت وجرحت آلاف الكوادر والناشطين، ولم يعد أمام الحزب من مبرّر للنكوص أو التردّد. ولذلك دخل المعركة بضغط من جمهوره، وكانت إسرائيل تتحسّب من ذلك، وهنا أطلقت حزمة اغتيالات استهدفت قادة الصفين الأول والثاني في الحزب، وفي مقدّمتهم الأمين العام حسن نصر الله.
في الميدان، كانت بطولات المقاومين اللبنانيين ورجال حزب الله لافتةً في الدفاع عن لبنان وعن أرضه وسيادته، يكفي أنهم واجهوا فرقاً عسكريةً مدرّبة تدريباً عالياً تسندها قوى إلكترونية واستخبارية نشيطة، وقوى عالمية تدعم وتساند ليل نهار. لكن ما يُؤخذ هنا على قيادة الحزب أن قرار الدخول في “حرب الإسناد”، وهو قرار إيراني طبعاً، جاء متأخّراً، ما أفقده الكثير من التأثير والفعل. ومع ذلك، يقول بعضهم إن مجيئه متأخراً خير من أن لا يجيء نهائياً. وفي المسافة بين العبرة والاعتبار، سعى الحزب إلى المحافظة على ما بقي له، وكان همّه لملمة جراحه، ومراجعة مسيرته بعد سلسلة الصدمات الصعبة التي واجهها. وفي ظل تلك الصدمات، وعبر تماهيه مع ما تريده دولة “ولاية الفقيه” الراعية له، لا نستطيع نحن أن نقول إن الحزب خرج من الحرب منتصراً، بل أكثر من ذلك يمكننا القول إنه خرج مهزوماً، ولم يعد، في واقع الأمر، يمتلك ما كان له من وهج، حتى في بيئته الشيعية الحاضنة. وثمّة أصوات خافتة شرعت تصل إلى العلن تحمّل إيران مسؤولية الانتكاسة التنظيمية التي واجهها. وربما تدفع تلك الأصوات مستقبلاً إلى التفكير في فك الارتباط بايران، وهي العلاقة التابعة التي كانت بمثابة “كعب أخيل” عنده.
لا يزال الطريق مفتوحاً أمام حزب الله لإعادة التموضع داخل اللعبة السياسية اللبنانية
ومع هذه الانعطافة المهمّة، لم يحاول حزب الله، على ما يبدو، أن يستفيد من الدروس التي أفرزتها الحرب، ولم يتخلّ عن خطابه الشعبوي الغارق في الوهم. خذ مثلاً إشارة أمينه العام نعيم قاسم عن “انتصار أكبر من انتصار عام 2006″، متجاهلاً الحصيلة العملية لهذا الانتصار المزعوم، استشهاد أكثر من 3800، وجرح وعوق اثني عشر ألف جريح آخرين، ودمار طال عشرات المدن والبلدات والقرى، وآلاف المساكن ومواقع العمل والمراكز الصحية والاجتماعية، وأكثر من ذلك إرغامه على القبول بوقف إطلاق النار والعودة إلى قرار مجلس الأمن 1701، وإلحاق القرار بشروط جديدة، بعضها غير مكتوب، بهدف تقييد حركة الحزب، ومنع وصول السلاح إليه، وإجباره على تسليم أسلحته إلى الدولة
ومع ذلك، لا يزال الطريق مفتوحاً أمامه لإعادة التموضع داخل اللعبة السياسية اللبنانية، وربما التخلي عن طابعه العسكري المليشياوي، والتحوّل إلى حزب سياسي. والأهم تكريس وضعه حزباً عربياً، وليس إيرانياً كما هو معروف عنه، وربما تحتاج كل هذه الخطوات إلى قرارات قاسية ومؤلمة تشبه تجرّع كأس السم.
المصدر: العربي الجديد