نشاهد، في الـ”سيلفي” الأول، شابّة ترفع شارة النصر وتردّد مقطعا من أحد أناشيد حزب الله، ووراءها مشهد احتراق المبنى المستهدف بصاروخ إسرائيلي في منطقة مار الياس في وسط بيروت. يبدو أن الشابّة تجول في مناطق القصف لترفع شارة النصر أمام المباني المدمّرة بعد كل عملية قصف، وهي تبدو منتشية بالنصر والصمود.
في الـ”سيلفي” الثاني، يدمر صاروخ طابقاً في مبنى في الطيونة أو الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت. يمرّ على بعد بضعة أمتار من المتفرّجين الذين عوضاً عن الفرار أو الاحتماء من آثار القصف، يُخرجون كاميرات الهواتف الجوالة لالتقاط المشهد عن قرب، والاحتفال بأنهم لا يزالون على قيد الحياة. تبد ضحكاتهم كأنها مستعارة من مشهد آخر لا علاقة له بالموت القريب جدا.
غرقت وسائط التواصل يوميا بصور التقطها من انتظروا دمار مبانٍ في مختلف المناطق اللبنانية، وفقا لتعليمات المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، أفيخاي أدرعي، فيما تعلو صيحاتهم بعبارات مثل “الله أكبر” بعد كل تدمير. هل كان المصورون يحتفلون بالدمار الذي بات في الأشهر الأخيرة عنوانا لحياة اللبنانيين، أم أنهم ينتصرون لهدف وهمي يعتقدون أنه واقع لا محالة يوما ما؟ هل هي جاذبيّة الدمار التي تجعلهم غير مبالين بالخطر الداهم، ومنه تناثُر الشظايا حولهم وقطع الزجاج وغبار الدمار ومعه الموت المحتم؟ هل يثق هؤلاء بتعليمات المتحدث الإسرائيلي، والتي تبدو كأنها الحقيقة الوحيدة في هذا المشهد السريالي، إلى حد المجازفة بالموت؟ ماذا لو اختار المتحدّث ألا يمثل الحقيقة، فلا تعود الأمتار الخمسمائة التي تفصلهم عن مشهد الدمار كافية لحمايتهم منه، وينتهون جزءاً من خرابه؟ هل بلغ تفتّت المجتمع اللبناني حدا بات معه العدو الحقيقة الثابتة الوحيدة، أم أنها عبثية الحياة التي لم تعد تعني أكثر من انتظار نهاية الكابوس، وتمضية الوقت الضائع بمشهد الانهيار الكارثي؟ تبارت في هذه “الهواية” الجديدة محطّات التلفزة المحلية التي أعادت مشاهد تدمير مبانٍ وكرّرتها كأنها سبق إعلامي تفخر بالحصول عليه.
صور الدمار التي نقلها هواة النوع في لبنان عبر كاميرات هواتفهم الجوالة، هي عنف مجاني للتسلية أو إنكار الحقيقة التي ترافقها
تفيد الدراسات بأن التعرض لكمّ كبير ومتواصل من صور العنف، عبر وسائل التواصل بشكل خاص، يؤدّي إلى حالة من انتفاء القدرة على الإحساس أو التعاطف مع ضحايا العنف، باعتبار أن مشاهد العنف تتحوّل مسألة متوقعة، وبالتالي طبيعية. لم تنتج مئات الصور العنيفة، على سبيل المثال، من مجازر النظام السوري ضد شعبه أي تغيير جذري في سياسات اللجوء في الدول الأوروبية ولم تحقق عدالةً تُذكر للضحايا أو أي عقاب للجاني. معايشة هذا القدر من العنف عن مقربةٍ مع ما تحمل هذه المعايشة من رعب واقتراب من الموت غالبا ما تعرض حامل هذه المشاعر لما يسمّى اضطراب ما بعد الصدمة (post-traumatic stress disorder). في حالة ملتقطي هذه الصور، لا يهرب هؤلاء من عنف الدمار، بل يتماهون معه إلى حدٍّ باتوا جزءا منه. هل كانوا هناك مصادفةً أم أنهم قصدوا المكان مزودين بكاميرات الجوّالات لتخليد مشهد دمار مبانينا؟ يبدو هؤلاء كأنهم أبطال أفلام بوليوودية يعيدون إنتاج مشاهدها كل يوم، بحسب تطورات الأوضاع. لا حاجة لمشاهدة أفلام عنف أو متابعة مشاهد العنف على منصّات الإعلام الحديث أو محطات التلفزة، عندما تصبح أنت شخصياً جزءاً من مشهدية العنف. هل بالإمكان اعتبار ردّات فعل هؤلاء من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة؟
أن تكون شاهدا على معاناة الغير هو فرضا فعل تواصل إنساني ناشط مع هذه المعاناة. وهو فعل يتيح تطور مشاعر التعاطف لتتحوّل المشاهدة، في بعض الأحيان، من مجرّد مشاعر مساندة وحزن إلى مشاركة فعلية في أشكال النشاط الداعي إلى التغيير أو العدالة للضحايا. هكذا يصبح فعل المشاهدة للمعاناة أو تصورها فعل مشاهدة أخلاقية (moral spectatorship). يختلف فعل المشاهدة هنا عن التعرّض للمواد العنيفة للتسلية أو الحشرية أو استنفار المشاعر الغرائزية للذّة العنف. في حالة مصوّري الدمار، لا يلتقط هؤلاء صور معاناة الآخرين بل مشهدية دمار حيواتهم بكل ما ترمز إليه هذه المباني من حياة كانت تنعم ببعض الاستقرار والأمان. هل يريد هؤلاء أن يتفادوا مواجهة هذه الحقيقة الفجة عبر تحويل الخسارة والهزيمة إلى خطاب سخرية وانتصار على واقع ليسوا قادرين على التحكم به أو تغييره، أم أنهم غير قادرين على التعاطف مع فداحة خسارتهم؟
بعد “سيلفي” الدمار، لا بد من وقفة لنفكر في أي صورة نريد أن نلتقطها لواقع يشبهنا
ينقل الأهالي في غزّة صور قتلاهم في أكثر مشاهد العنف فظاعة، إلا أن هذه المواد الخام الصادمة باتت صوت هؤلاء في التعبير عن خساراتهم الفادحة، بعدما امتنع الإعلام العالمي عن نقل هذه الصور. أما صور الدمار التي نقلها هواة النوع في لبنان عبر كاميرات هواتفهم الجوالة فهي عنف مجاني للتسلية أو إنكار الحقيقة التي ترافقها. حقيقة هزيمة مدوّية لا يريدون أن يبكوها أو حتى أن يشاهدوها.
فور إعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، بدأت فيديوهات الاحتفال بعودة لبنان بوصفه رمز الاستمتاع بالحياة تجتاح وسائط “السوشل ميديا”، ومعها رصاص الاحتفال بـ”الانتصار” في الشوارع. في غضون ساعات قليلة، انتقلنا من سردية الدمار والقتل إلى سردية الاحتفال بالعودة إلى ما كنا عليه من قدرة على الانشراح في وجه الأزمات، ورغما عن أنفها. هل هو حنين يدفعنا جميعا إلى القفز سريعا إلى عالم الأمس؟ هل نعود كما كنا، على هشاشة هذا العالم السابق، أم نتوقف قليلا لالتقاط أنفاسنا ومعالجة تبعات الدمار الذي انتقل من مبانينا ومنازلنا إلى دواخلنا بدءاً بالاعتراف به باعتباره خسارة؟ هل نخرج هواتفنا الجوالة لنصور عودتنا إلى الحبور كما صور مدمنو دمار المباني مشاهد هزيمتنا؟
بعد “سيلفي” الدمار، لا بد من وقفة لنفكر في أي صورة نريد أن نلتقطها لواقع يشبهنا، صورة تبحث عن معاني هذا الدمار في تعاطف حقيقي مع الذات لا أوهامها النرجسية.
المصدر: العربي الجديد