يتولّى دونالد ترامب، بعد أسابيع، منصبه الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، وفي الذاكرة ولايته الرئاسية الأولى (2017 – 2021)، بسبب الحروب التجارية، وانتقاد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وقرارته الداعمة إسرائيل ولم يسبق ان أقدم عليها أي رئيس أميركي سابق.
يصعب على أي مراقب توقع ما ستحمله السنوات الأربع المقبلة من رئاسة ترامب، فعلى الرغم من تصريحاته الصاخبة بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، في أثناء حملته الانتخابية، لم يطرح أي خطوات عملية واضحة، مثل خطته المزعومة لإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة أو تسوية الصراعات في الشرق الأوسط. ومع ذلك، تستمر التكهنات بشأن كيفية تعامله مع ملفات عالمية حسّاسة، تشمل العلاقات مع الصين، وإسرائيل، وإيران، وروسيا، وأوكرانيا، وحلف “ناتو”.
نشرت صحيفة واشنطن بوست، أخيراً، خبراً لافتاً عن أن ترامب أجرى اتصالًا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورغم أن مثل هذه الاتصالات تُعد ممارسة طبيعية لرؤساء منتخبين قبل توليهم مناصبهم بهدف وضع أسس العلاقات المستقبلية، إلا أن الكرملين نفى هذا الادعاء، ووصف المتحدث باسمه دميتري بيسكوف الخبر بأنه “محض خيال”. وبالنظر إلى صيغة الخبر وطابعه الاستفزازي، يبدو أن الصحافة الأميركية، ذات الميول الديمقراطية، تحاول، منذ البداية، إشاعة أجواء من التوتر وعدم الثقة بين واشنطن وموسكو.
ومن التصريحات المبكرة لترامب وفريقه، يمكن استخلاص ثلاث ركائز أساسية لسياسة إدارته المقبلة حيال موسكو: أولاً، ستظل أوكرانيا ضمن دائرة المصالح الحيوية للولايات المتحدة، مع رفضٍ لفكرة تركها تحت النفوذ الروسي. ثانياً، يعارض الجمهوريون نهج الإدارة السابقة المتمثل في إنفاق أموال دافعي الضرائب لدعم أوكرانيا بشكل مباشر، ويفضلون نقل هذا العبء المالي إلى الحلفاء الأوروبيين. ثالثاً، الانفتاح على التفاوض مع روسيا يظل خياراً ممكناً، لكن فقط وفق شروط أميركية تضمن تحقيق مصالح واشنطن.
من الممكن أن تكون إحدى وسائل “فرض السلام” على موسكو، كما يبدو، تتمثل في إرسال مزيد من الصواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا
في هذه الظروف، يبدو أن الاعتراف بواقع إقليمي جديد أصبح ممكنًا، وإنْ بحكم الأمر الواقع فقط وليس بحكم القانون. ومع ذلك، من غير الواضح نوع “التنازلات الإقليمية” التي قد يكون فريق ترامب على استعداد لتقديمها. من المحتمل أن تشمل شبه جزيرة القرم وربما دونباس والمناطق الأخرى التي باتت روسيا تسيطر على أجزاء واسعة منها في أوكرانيا، كما قال نائب الرئيس القادم جي دي فانس: “ما يخدم مصلحة أميركا قبول تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها للروس، لأننا بحاجة إلى إنهاء هذه الحرب”. لكن هذا الأمر يبقى محل شك في ظل تعقيداته السياسية، وهل سيكون هناك توافق داخلي في واشنطن على هذه التنازلات؟
من اللافت أن مناقشة جميع هذه السيناريوهات داخل الولايات المتحدة تعكس ثقة كبيرة بقدرة واشنطن على فرض شروطها على روسيا، لكن هذه الثقة تطرح تساؤلات مهمة: إلى ماذا تستند؟ وهل تمتلك الولايات المتحدة فعلاً الأدوات الكافية لإجبار روسيا على القبول بهذه الشروط؟… في حديثه إلى صحيفة فاينانشيال تايمز، كشف مايك والتز، عضو الكونغرس الجمهوري وأحد أعضاء فريق ترامب، عن ملامح خطة لإجبار روسيا على التفاوض، وهي أن ترامب يعتزم ممارسة ضغوط اقتصادية مكثفة، تصل إلى تهديد “بانهيار الاقتصاد الروسي” عبر خفض أسعار النفط والغاز.
الاعتراف بواقع إقليمي جديد أصبح ممكنًا، وإنْ بحكم الأمر الواقع فقط وليس بحكم القانون
وهنا لا بد من التذكير بأن عدد العقوبات على روسيا ارتفع خلال ولاية ترامب الأولى بشكل كبير، كما كان ترامب هو من بدأ في إرسال الأسلحة الفتاكة إلى كييف، وهو ما كان يعارضه سلفه باراك أوباما. لذا من الممكن أن تكون إحدى وسائل “فرض السلام” على موسكو، كما يبدو، تتمثل في إرسال مزيد من الصواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا، ما يتيح لها ضرب الأهداف في عمق الأراضي الروسية، وهو ما كان الديمقراطيون يعارضونه بشدة حتى قبل أيام.
الإيجابي الوحيد الذي تجلبه رئاسة ترامب الجديدة لروسيا هو المواجهة الأكثر جدية مع البيروقراطية الأوروبية، والمشاحنات داخل حلف شمال الأطلسي.
وبين التصعيد والتفاوض، يظل مستقبل العلاقات الأميركية الروسية غامضاً، إلا أن التحدّي الأكبر أمام ترامب سيكون كيفية التوفيق بين فرض الضغوط الاقتصادية والعسكرية، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على قنوات الاتصال مع موسكو. وما هو واضح اليوم أن العالم الذي تركه ترامب في ولايته الأولى ليس هو نفسه العالم الذي سيواجهه في ولايته الثانية، فهل سيكون ترامب قادراً على التوفيق بين مواقف التصعيد والضغط، أم سيجد نفسه مضطرًا لتقديم تنازلاتٍ قد تؤثر على مكانة الولايات المتحدة عالميّاً؟
المصدر: العربي الجديد