أحد أهم السمات الدستورية فى الدولة/ الأمة، والأنظمة الليبرالية التمثيلية، تتمثل فى الفصل بين السلطات، وفق النموذج الرئاسى الأمريكى، والبرلمانى البريطانى، وشبه الرئاسى الفرنسى. بعض هذه النظم الدستورية تأخذ بالفصل والتمايز بينهم ، وبعضها مع التعاون في حدود نسبية بين السلطات الثلاث التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
يرمي الفصل والتمايز بين السلطات، إلي ضمان الرقابات المتبادلة ، وأيضا توزيع القوة للحيلولة فيما بينهم حتي لا تتحول أيا منهم إلى سلطة مطلقة علي الآخري ،وتؤدى إلى الطغيان والاستبداد السياسى. من ثم استقلال كل سلطة عن الأخرى، فى ظل إقرار الدساتير للحريات العامة والشخصية، هو أبرز تنظيم لها، في ظل ضمانات دستورية وتشريعية تحول دون تغول أيا منها، ولاسيما السلطة التنفيذية. من ثم يُعد استقلال القضاء والقضاة الضمانة الكبرى لحماية الحريات العامة والشخصية فى الحياة الحديثة والمعاصرة ، سواء في الدساتير المكتوبة او المبادئ الدستورية غير المكتوبة والتي عكست تطور الحريات جميعها ، وتقاليد النظام البرلماني كما في النظام البريطاني .
لعب القضاء والجماعات القضائية فى الدول الديمقراطية التمثيلية دوراً مركزيا، فى حماية ودعم الحريات كافة، وفى فرض رقابات على أعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية، سواء من خلال الرقابة الدستورية على القوانين، واللوائح، والقرارات الإدارية في دول النظام القضائي الواحد او نظم تعدد جهتي القضاء . على صعيد القضاء الإدارى، فى الدول التى تأخذ بتعدد جهتى القضاء العادى والإدارى يمارس قضاء مجلس الدولة رقابة على أعمال السلطة التنفيذية سواء محاكم القضاء الإدارى، أو المحاكم الإدارية العليا على النسق الفرنسى، والتى تفحص مدى مشروعية اللوائح والقرارات الإدارية . كرست أحكام المحاكم الإدارية العليا في التقليد القانوني اللاتيني والفرنسي تراث ممتد، ومستمر فى الدفاع عن المشروعية، على نحو أدى إلى إنتاج منظومة من المبادئ القضائية العامة التى تحمى حقوق المواطنين، وحرياتهم العامة، والشخصية. لاشك ان هذه الأدوار الهامة ترسخت في النظم الأنجلوساكسونية ، وفي التقاليد الألمانية . التراث التاريخي المستمر من المبادئ العامة القانونية والقضائية، وفق النموذج الفرنسى، تم استلهام بعضه فى الأنظمة القضائية التى أخذت بالمرجعية القضائية الفرنسية، ومنها القضاء الإدارى المصرى، وبعضها حاول الملائمة بين أوضاع تركيبات القوة فى وضعية السلطات الثلاث، وبين التقاليد القانونية والقضائية الفرنسية مع بعض من التعديلات .
فى النظام الأمريكى، والبريطانى -على التمايز بينهما- كانت مسألة الحريات العامة والشخصية أساسية فى تقاليد كلا النظامين، والمبادئ الدستورية العامة -المحكمة العليا الأمريكية- والمحاكم البريطانية، على نحو ساهم فى حماية الحريات كافة، وأدى إلى تطويرها مع تحولات كلا الدولتين والمجتمعين على كافة المستويات الاقتصادية والتكنولوجية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، واتساع فضاءات الحريات كافة، مع هذه التطورات فائقة السرعة، والتطور المفرط .
من هنا كان استقلال القضاء ، والجماعات القضائية المستقلة ذات التقاليد الراسخة فى حماية الحريات أحد أبرز محركات تطور هذه المجتمعات، فى مجال حريات الرأى والتعبير، والبحث الأكاديمى، والعلمى، وفى تشكيل الأحزاب السياسية، ودعم الحريات المدنية، والمبادرات الخاصة والجماعية، بل وفى المساهمة فى الكشف عن الأعطاب التشريعية التى يكشف الواقع الموضوعى عن مثالبها، وعدم فاعليتها، والأهم تحفيز الأبداع للأفراد والجامعات ومراكز البحث العلمي كافة .
استقلال القضاء والقضاة، من خلال قوانين تنظيم السلطة القضائية، واستقلالية القضاة، هو أبرز سمات الديمقراطيات التمثيلية فى الدول الأكثر تقدما، وذلك لحماية الحريات كافة، ويكرس الأستقلال القضائي مفهوم أمن المواطن إزاء أية إنتهاكات يمكن أن يمارسها بعضهم إزاء الآخرين، أو من السلطات السياسية والأمنية والرقابية التي قد تحاول الخروج على السراط القانوني السليم، أو عبر تأويلاتها، وتبريراتها لأى خروج على المبادئ الدستورية والقانونية العامة التى استقر عليها القضاء.
فى دول ما بعد الاستقلال عن الكولونياليات الغربية فى جنوب العالم، وخاصة العالم العربى، تم الأخذ بالقوانين الغربية للمستعمر – الفرنسى والإيطالى، والبريطانى والبرتغالي والأسباني..الخ- ومعها الدساتير التى سادت هذه الدول، مع تعديلات عديدة كرست الاستبداد السياسى، والتسلطية السياسية، ومن بين هذه التعديلات، هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.
في عديد الدول مابعد الكولونيالية تم اختزال السلطة التنفيذية فى حيازة القوة فى موقع رئيس الدولة- الملك، والأمير، والشيخ، والرئيس-، وبعض مواقع القوة حوله، من الموالين من التابعين. الأخطر أن السلطات الثلاث فى المجتمعات الانقسامية – القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية – كانت تعكس فى بعض تشكيلاتها انتماءات مواقع القوة فى السلطة التنفيذية من خلال نظام الزبائنية القبلية والعشائرية والعرقية والمذهبية، أو بعض الانتماءات الأيديولوجية للنظام -حالات سوريا والعراق، والسودان، وليبيا، واليمن..الخ-، وهو ما أثر سلبا على استقلالية سلطتى التشريع والقضاء، ومن ثم على إنتاج غالب التشريعات، وبعض اتجاهات الأحكام القضائية، خاصة أن النظم القضائية العربية ما بعد الاستقلال، لم تكن لديها تقاليد قانونية عريقة على النسق الأوروبى، وأيضا لجماعات قضائية ذات تكوين قانونى بالغ التميز، وممارسات رسخت استقلال القضاة، والقضاء، على نحو ما قامت به جماعة القضاة، والقضاء فى المثال التاريخى المصرى منذ مطالع النهضة الحديثة، وأيضا فى ظل المرحلة شبه الليبرالية، وبعض فوائضها فى ظل نظام يوليو.
قام القضاة المصريين، بالدفاع عن استقلاليتهم، وفى تطويع القوانين الحديثة، مع الواقع الاجتماعي المصري المتغير، وأيضا مع القيم الاجتماعية السائدة والمتحولة.
الأهم أن القضاء فى المرحلة شبه الليبرالية، شكل المركز الرئيس فى حماية الحريات العامة والشخصية فى مواجهة أية تغولات من السلطة التنفيذية، وأجهزتها الأمنية والبيروقراطية فى ظل انقسامات اجتماعية، تكرس قانون المكانة والقوة والنفوذ، وقوانين تحملُ مصالح القوة الطبقية المسيطرة سياسيا، واقتصاديا.
فى النظم القضائية العربية ما بعد الاستقلال، يمكن القول أن الطبيعة الشمولية، والتسلطية لهذه النظم السياسية أدت إلى ظاهرة دمج السلطات فعليا لصالح موقع الحاكم ومراكز القوة حوله ، على نحو أدى إلى الاستبداد التشريعى، وإلى تسيس القضاء والقضاة، وهو ما أثر سلبا على وضع الحريات العامة والشخصية عربيا ، لاسيما فى القضايا السياسية، التي اتهمت فيها قوي السياسية المعارضة أيا كانت توجهاتها الإيديولوجية.
من أبرز ظواهر التسييس القضائى، المحاكم الاستثنائية، التي كان بعضها جزءاً من نظام الطوارئ الذى تحول من حالة استثنائية لمواجهة الظروف الطارئة طبيعة، أو أمنية، أو في حالة الحرب إلى جزء من النظام القضائى، وهو ما أثر هيكليا، وسلبيا على استقلال القضاء ،والحريات العامة والشخصية وضماناتها الدستورية والقانونية والقضائية . من أبرز مظاهرة وسمات عدم استقلال السلطات القضائية العربية، أن بعض تعينات القضاة، تتم وفق معايير وزارات العدل -وهي جزء من السلطة التنفيذية- وأيضا اختيار رؤساء الهيئات القضائية، والنواب العموميون، تتم من خلال رئيس الدولة من بين مرشحين من أقدم المستشارين فى هذه الهيئات، وهو ما يعطى السلطة التنفيذية الحق فى الاختيار فيما بينهم .
ان ظاهرة تسيس القضاء مرجعها الاستبداد السياسي والتسلطية السياسية قبل وبعد الربيع العربي المجازي وفشل مراحل الانتقال السياسي ، وايضاً ظاهرة الدمج بين السلطات بيد من يحوز القوة عند قمة هذين النموذجين ومواقع القوة حوله في النظم السياسية الاستبدادية والتسلطية العربية ، والتي تخشي من استقلال القضاء والقضاة الذين يراقبون التجاوزات الدستورية والإدارية ، وأجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية والبيروقراطية في نظم بلا ضمانات فعلية لحقوق المواطنة والحريات العامة والشخصية . بعض الجماعات القضائية في اعقاب الانتفاضات الجماهيرية في بعض البلدان العربية تعاني من أثر تعرض بعض القضاء والقضاة إلي اعتداءات علي المحاكم -، وإلي اختيارات للنواب العموم وفق تحيزات بعض القوي الإسلامية والسلفية – التي وصلت إلي سدة السلطات آنذاك . ويبدو أن ذلك دفع بعضهم إلي التساند مع سلطات الدولة الأخرى ، لدعم عمليات الاستقرار السياسي ، وكرس ذلك التشريعات التي أصدرتها السلطة التشريعية وتحيزاتها لمشروعات القوانين التي قدمتها ، ولاتزال السلطة التنفيذية ، ورمت الي هيمنة النزعة التجريمية والعقابية والإجرائية ، وشكلت قيودا باهظة علي الحريات العامة والشخصية ، وكرست موت السياسة في بعض بلدان مابعد الربيع العربي.
من ثم ادي تفاقم القيود علي الحريات العامة والشخصية، إلي تكريس الخضوع السياسي القلق داخل بعض هذه المجتمعات ، والذي قد يؤدي فيما يبدو إلي بعض من الظواهر الاحتجاجية السياسية والاجتماعية ، نظرا لتفاقم الفقر وعسر الحياة وتفكك بعض الفئات الوسطي / الوسطي، والصغيرة والرثة ، والقطاعات العمالية والفلاحية الفقيرة ، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة . تمدد السياسة الجنائية والعقابية والإجرائية، في ظل المشاكل والقيود علي استقلال القضاء والقضاة ، يشكل مخاطر علي الحريات العامة والشخصية في النظم التسلطية والاستبدادية العربية .
لا شك أيضا وايضا أن عدم استقلالية السلطة القضائية فى غالب البلدان العربية، يؤدى إلى بعض من التأثيرات السلبية على ضمانات الحريات العامة والشخصية في نطاقات الاستقرار السياسى الهش في ظل تفاقم وانفجار عديد المشكلات الاجتماعية والاقتصادية . الأخطر فى دول الحروب الأهلية -اليمن، والسودان- حيث لا توجد أية ضمانات للحريات العامة والشخصية، وهو ما نشاهده فى عديد الحالات العربية الراهنة، فى ظل فيضان من الدماء، والموت المحلق فوق المدنيين.
أن أية محاولات للخروج من أوضاع التخلف التاريخى العربى المركب، تبدأ من خلال استقلال القضاء والقضاة، كضمانة للحريات، والإبداع الفردى والجماعي فى المجتمعات العربية.
المصدر: الاهرام