نبيه برّي.. “رئيس في بلاد العجائب “

مالك داغستاني

على طرافتها، لم تكن تسريبات ويكيليكس عام 2011، وحدها ما فضح الموقف الحقيقي لنبيه بري رئيس مجلس النوّاب اللبناني من حزب الله خلال حرب تموز 2006. فقد كان ما يبطنه الرجل، ومعه عناصر حركة أمل معروفاً لجمهور الطرفين، منذ تأسس حزب الله من قلب حركة أمل عام 1982.

هل بدا لكم عنوان مادتي ساخراً إلى حدّ ما؟ أجل، لم تجانبوا الصواب كثيراً. فالمشهد اللبناني برمّته ورغم دمويته اليوم، يحمل في ثناياه الكثير من عناصر الطرافة، حتى ليبدو أحياناً أنه ينتمي لمسرح تختلط فيه التراجيديا مع الكوميديا السوداء، إضافةً لمسْحةٍ ليست قليلة من العبث. والعبث هنا للأسف، هو بمصير البلد وأهله ومستقبله عبر لاعبين وفاعلين في المشهد اللبناني، أقل ما يقال فيهم أنهم لم يستحقوا أن يرثوا عراقة بلدهم، وتميزه في المحيط العربي.

يكاد يجمع المهتمون بالشأن العام في معظم البلدان على عدم تصديق السياسيين، إلا في حالات نادرة. ولبنان واللبنانيون ليسوا استثناءً، إلا عندما يثقون بزعيم الطائفة التي ينتمون إليها، فنراهم وكأنهم منومون مغناطيسياً، وهم يهزّون رؤوسهم بالموافقة على كل ما يصدر عن “الزعيم”، مهما انطوى على أكاذيب فاقعة. والقلّة التي لا تفعل، إنما هم الخونة والمارقون والعملاء إلى آخر تلك التوصيفات التي غدت من صلب الفولكلور السياسي اللبناني.

من بين تسريبات موقع “ويكيليكس” عام 2011، كان هناك تقرير عن محادثة أجراها نبيه برّي مع السفير الأميركي في لبنان جيفري فيلتمان خلال حرب تموز، وأوصلها الأخير عبر برقية، تحمل الرقم “BEIRUT2407 60″، إلى وزارة الخارجية الأميركية. يقول بري لفيلتمان “إن الضربات الإسرائيلية لحزب الله كالعسل، القليل منه يفيدك، ولكن أن تلتهم كل ما في الجرَّة فهذا يجعلك مريضاً” ليطلق بعدها ضحكة مجلجلة، كما جاء في التقرير، وعلى ذمة كاتبه. يعزو فيلتمان، في نهاية برقيته، هذا العداء الخفي بين الحليفين إلى التنافس على النفوذ ضمن الطائفة الشيعية الذي يميل لصالح حزب الله.

برّي بقي رئيساً للبرلمان اللبناني منذ اثنين وثلاثين عاماً بدعمٍ من حزب الله.

يتداول الإعلام اللبناني والعربي مصطلح “الثنائي الشيعي” للإشارة إلى التحالف السياسي والنيابي بين حزب الله وحركة أمل. لكن قبل أن يظهر هذا التعبير إلى الوجود كان هناك الكثير مما جرى بين الطرفين، ما زالت رواسبه باقية حتى اليوم. نذكر جميعاً التعبير الأقدم الذي تم تداوله نهاية القرن المنصرم، وهو “حرب الإخوة”. تلك الحرب التي امتدت لأكثر من عامين بين الحزب الوليد والحركة، وراح ضحيتها المئات (البعض يقدر الرقم بالآلاف) من مقاتلي الجانبين، وكان مسرحها ضاحية بيروت الجنوبية، والجنوب اللبناني وبخاصة إقليم التفاح.

كانت تلك الحرب نتاج التناقض الذي نشأ مع دعم إيران لحزب الله خلال تشكُّله في بيئة الحركة المدعومة سورياً، عبر انشقاق عناصرها وانضمامهم للحزب الوليد منذ عام 1982. تزايدت تلك الانشقاقات خلال وبعد “حرب المخيمات” التي خاضتها أمل لصالح حافظ الأسد، ضد حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية عموماً. الحزب المدعوم إيرانياً بدا حينها أنه يقضم من النفوذ السوري لصالح النفوذ الإيراني، حيث بدأ الأخير يفصح عن نفسه في لبنان خلال تلك المرحلة، بقيادة الحرس الثوري الإيراني.

بدأت تلك الحرب المتقطّعة ربيع عام 1988، وانتهت مع توقيع اتفاق بين الطرفين برعاية سورية إيرانية خريف عام 1990. اتفاقٌ لم يمنع النار التي بقيت تحت الرماد من الظهور بين فترة وأخرى، حتى اليوم، نتيجة التوترات المتأصلة حول المكانة ضمن الطائفة. واحدة من الاشتباكات بين الطرفين قبل أربع سنوات، كانت من أجل تعليق صورة كبيرة لبري قرب صورة أصغر لنصر الله في إحدى قرى الجنوب، أدت إلى قتل عنصر من الحركة. خلال تشييعه هتف عناصر أمل “نصر الله عدو الله”.

يعتبر البعض أن حركة أمل تُشكّل الوجه (العلماني!) للمجتمع الشيعي في لبنان، والذي يعتمد “النجف” كمرجعية عربية، بينما يمثل حزب الله الوجه الأصولي المحافظ والمتشدد دينياً، ويتبع ولاية الفقيه في إيران. وهو اعتقاد لا يبتعد كثيراً عن الحقيقة، وإن لم تكن تلك المرجعيات هي من تشكل ترجيحاً لأحد الطرفين، لولا الدعم المادي الهائل الذي انهال على الحزب من إيران طوال عقود، ما قوّى حظوظه في الاستقطاب في بيئة “المحرومين” التي كانت، للمفارقة، تؤيد منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب اللبناني! قبل ظهور التمثيلات السياسية الشيعية.

رغم التناقضات الجذرية، أظهر قادة الطرفين القدرة على إدارة تلك التوترات والتخفيف منها، لمصلحةٍ منفعية متبادلة بين التيارين ضمن البيئة اللبنانية العامة. ولنتذكر أن برّي لا يزال رئيساً للبرلمان اللبناني منذ اثنين وثلاثين عاماً بدعمٍ من حزب الله. وإن احتكرت الحركة حصة الشيعة من الوظائف العامة في البدايات، إضافة لسماح الحزب أن تستحوذ الحركة على نسبة لا تتوافق مع حجمها من الحصة الشيعية في مجلس النواب، إلا أن تلك التنازلات، تركت لحزب الله قيادة المقاومة والتفرد العسكري، الذي أوصل لبنان لأن يكون في النهاية مسلوب القرار لصالح إيران، وهذا كان الأهم بالنسبة لطهران من المنافع الحكومية والنيابية.

بالمقابل، لم تخرج حركة أمل نهائياً من معادلة القوّة العسكرية، فهي تمتلك ميليشيا مسلحة يقدَّر تعدادها بالآلاف، تحوز أسلحة خفيفة ومتوسطة، بما فيها الصواريخ متوسطة المدى ومضادات الدروع، ولها مقرات عسكرية ومستودعات أسلحة تنتشر في الجنوب، مع سماحٍ حذر وتحت المراقبة، من حزب الله الذي يحكم سيطرته على المنطقة، ولا يجيز لأي طرف غير حليف بدخولها. مع ذلك كان لحركة أمل استثناء خاص من ضوابط الحزب الصارمة. يدعي الإسرائيليون اليوم أن عناصر من الحركة يقاتلون مع أفراد الحزب في جبهة الجنوب، لصدِّ التقدم البري الإسرائيلي.

وأنا أكتب مادتي هذه، تتواتر الأخبار عن قرب إعلان وقف إطلاق النار، يتراوح الوصف من هدنة إلى اتفاق نهائي، بين إسرائيل وحزب الله. إن حدث ذلك، فإن أحد أبطال هذا الاتفاق هو نبيه برّي بالتأكيد، وهو المفوَّض من قبل حزب الله وإيران للتفاوض مع الوسيط الأميركي (الإسرائيلي) آموس هوكشتاين. بالعودة إلى تقرير ويكيليكس يمكن طرح سؤال طريف على الرئيس برّي: فخامة الرئيس، بماذا وصفت الحرب الإسرائيلية على حزب الله أمام هوكشتاين هذه المرة؟

يقوم اليوم الرئيس برّي بما يفترض أن يقوم به رئيس الجمهورية دستورياً، ويحتل منصبه في المفاوضات بحكم الأمر الواقع، كما لا يمكن أن يحدث في أي بلد آخر. مع غياب تام لأي طرف لبناني.

في الدستور اللبناني، كما نعلم، هناك الرئاسات الثلاث، الجمهورية والحكومة والبرلمان، والأخيرة من حصة ممثل الشيعة، وهو هنا برّي الذي امتلك مفتاح المجلس منذ عقود. يتندر اللبنانيون أن برّي أغلق باب المجلس وأخفى المفتاح في الكثير من المحطات الدستورية، الأمر الذي عطَّل العديد من الاستحقاقات. منذ عامين وإلى اليوم لبنان بدون رئيس جمهورية، مع رئيس حكومة تصريف أعمال مشلولة إلى حد كبير. ولذا وجدنا أن الرئاسة الثالثة في لبنان هي من تدير المفاوضات. برّي في الواجهة ومن خلفه الشق الثاني للتوأم الشيعي حزب الله ومن خلف الإثنين هناك إيران.

عودٌ على بدء. يقوم اليوم الرئيس برّي بما يفترض أن يقوم به رئيس الجمهورية دستورياً، ويحتل منصبه في المفاوضات بحكم الأمر الواقع، كما لا يمكن أن يحدث في أي بلد آخر. مع غياب تام لأي طرف لبناني. وأكثر من ذلك يبدو أن برّي لا يخبر أياً من تلك الأطراف اللبنانية، باستثاء الحزب وطبعاً إيران، بمجريات المفاوضات فيضطر هوكشتاين لإجراء زيارات لبعض القادة السياسيين كي يضعهم بصورة ما يجري. هل هذا وضع كاريكاتيري؟ طبعاً وربما أكثر.

يجمع معظم السياسيون اللبنانيون بأن الرئيس برّي مناور حاذق يجيد تدوير الزوايا والعمل على الإعلاء من شأن المصلحة حتى لو اصطدمت بالمبادئ والأفكار، دون خضوع لما تسمى “الثوابت” التي يهذر بها السياسيون عادةً. إضافة إلى اعتقاد الجميع بأنه يتمتع بشخصية ذكية ومحببة، فهو يجيد إلقاء النكات حتى في أصعب الظروف، وكل من تابع جلسات البرلمان اللبناني لابد أنه لاحظ تعليقاته التي تنمُّ عن بديهة حاضرة وخفة ظل حتى خلال الصراعات العنيفة بين النوّاب.

ما أردت قوله أن برّي بمواصفاته الشخصية وخبراته الهائلة، إضافة إلى مهارات التفاوض والبلاغة اللغوية، هو صورة عن السياسي “النموذج” في المخيلة اللبنانية وربما غير اللبنانية، الذي يستطيع التواصل مع جميع الأطياف داخلياً وإقليمياً ودولياً، ما جعل من مقر إقامته في “عين التينة” قِبلة للديبلوماسيين والسياسيين الغربييبن في العديد من المحطات. حسناً من باب الطرافة، ومع امتلاك عناصر حركة أمل مئات “الموتوسيكلات” التي تصلح لمراسم مواكب رئاسة الجمهورية، أكثر من الهجمات على المناوئين والخصوم السياسيين، ولولا أنه بلغ السادسة والثمانين من العمر، لكان من المناسب اقتراح تغيير الدستور اللبناني وانتخاب نبيه رئيساً للجمهورية اللبنانية الجديدة. هل أمزح هنا؟ نعم، بالتأكيد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى