
شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة نهاية القرن الماضي فترة تحوّلت فيها عشرات الدول من الشيوعية إلى ما يسمى بفترة التحول الديمقراطي، إذ الهدف منها أن تدخل البلاد هذه في عملية التحديث والنهوض من خلال تبني النموذج الليبرالي الديمقراطي، الذي يقتضي بالنهاية تحولاً في القيم نحو اتجاه أكثر تسامحًا وديمقراطية.
كان أحد جوانب عملية التحديث هذه هو توقع تراجع الهويات الإثنية والكراهية الناتجة عنها كون هذه الدول أو الكيانات تشكلت بفعل الإكراه والنمط المركزي من الحكم سواء في الاتحاد السوفييتي ومحوره أو في الاتحاد اليوغسلافي، وبالتالي سيكون من مفرزات هذا التحديث والانتقال تقليل العداء تجاه الأقليات والمهاجرين، لكن مسار التطور الفعلي لتلك الدول اتخذ اتجاهات مختلفة.
كانت عملية الانتقال في بعض الدول سلمية وناجحة إلى حد كبير، وفي بعضها الآخر تعثرت ودخلت حروبا عززت الاتجاهات القومية والدينية والكراهيات القائمة عليهما، فبعض الدول انضمت إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن “استوفت” شروطه، وكثير منها ينتظر على القائمة، والمهم أن بعضاً من هذه الدول سواء من دخل الاتحاد الأوروبي أو من ينتظر لا يزال يعاني من الاستبداد وسيادة نمط الحكم السابق من حيث الفساد بما يقتضيه من تشكل نخب حاكمة تابعة وغياب بعض من أساسات الحكم الليبرالي الديمقراطي وخاصة القضاء المستقل، وضعف حالة التسامح وانتشار الكراهية تجاه المهاجرين، ناهيك عن انخفاض مستويات الناتج المحلي، وغياب فرص العمل ما يجعل منها أيضاً بلداناً مصدرة للمهاجرين، وهذا يجعل من هذه البلدان حالة مثيرة للاهتمام للغاية: تصدر المهاجرين، لكنها تعادي من يدخلها أو يعبرها كمهاجر أو لاجئ.
مع بدايات القرن الحالي وتحديداً في الفترة بين 2010 و2020 سجل أكبر عدد من المهاجرين، وخاصة من منطقتنا العربية (العراق وسوريا)، وربما ما طغى على الجميع هو هجرة السوريين الذين تجاوز أعداد من هجروا من بيوتهم عشرة ملايين، كان نصيب أوروبا منهم حوالي مليوني شخص. كان هدفهم النهائي هو دول أوروبا الغربية لأسباب عديدة، أهمها رسوخ الحالة الديمقراطية والوضع الاقتصادي المتطور، ما يوفر أسباب الحياة الكريمة، لكن في طريقهم نحو الهدف هذا، كان عليهم عبور الدول التي انتقلت من نظام الحكم “الشيوعي” المركزي والقائم على خنق الحريات وتسلط أجهزة الأمن إلى النظم الديمقراطية في الحكم، لكن لم تكن في كثير من الأحيان عملية الانتقال ناجحة، فهي تحتاج لوقت ليس بالقصير، ناهيك عما يظهر من مشكلات تعيق عمليات الانتقال من القوى الراسخة وصاحبة المصلحة في استمرار الفساد والاستبداد.
يصف كبار المسؤولين في أوروبا الشرقية مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا “أن المهاجرين أدخلوا أمراضًا مثل الكوليرا والديزنتاريا إلى أوروبا، وفي حين أن هذه الكائنات قد لا تشكل خطرًا على صحة المهاجرين أنفسهم، إلا أنه من المحتمل أن تكون خطرة في السياق الأوروبي“.
ومن هذه الدول التي يتوجب على المهاجرين عبورها بيلاروسيا وبولندا والتشيك وهنغاريا وكرواتيا، وهي عينات من دول الاتحاد السوفييتي ومحوره (حلف وارسو) والاتحاد اليوغسلافي. فالأولى (بيلاروسيا)، لا تزال محكومة بنظام حكم فاسد تابع لروسيا، كانت تستخدم عبور اللاجئين كسلاح في معركة روسيا مع الغرب، أما بولونيا وجمهورية التشيك وهنغاريا فقد كانت تحكمها أكثر المواقف عدائية تجاه المهاجرين تتمثل في المواقف السياسية لكبار المسؤولين فيها، أما كرواتيا، وهي البلد الذي تأسس في نهاية 1991، وما رافق تشكيلها من حرب في البوسنة والهرسك، حرب لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم، ودخلت الاتحاد الأوروبي عام 2013 لأسباب معظمها سياسية وليست مدى مطابقتها لمعايير الاتحاد الأوروبي، فهي مستمرة في ممارسات سيئة بحق العابرين، منها السجن والتعذيب.
فعلى سبيل المثال، يصف كبار المسؤولين في أوروبا الشرقية مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا “أن المهاجرين أدخلوا أمراضًا مثل الكوليرا والديزنتاريا إلى أوروبا، وفي حين أن هذه الكائنات قد لا تشكل خطرًا على صحة المهاجرين أنفسهم، إلا أنه من المحتمل أن تكون خطرة في السياق الأوروبي”، وأن “اللاجئين المسلمين قد لا يلتزمون بالقوانين والأعراف الثقافية للبلدان المضيفة لهم، وحذر من أن هدفهم قد ينطوي على إقامة الشريعة”، و”لا ينبغي لنا أن ننسى أن الأشخاص الذين يأتون إلى هنا تربوا وفق دين مختلف ويمثلون ثقافة مختلفة تمامًا، وأغلبهم ليسوا مسيحيين، بل مسلمين. أليس من المثير للقلق أن الثقافة المسيحية في أوروبا بالكاد قادرة على الحفاظ على مجموعتها الخاصة من القيم المسيحية”.
لا تخفي هذه التصريحات الروح العدائية للمهاجرين وحتى تصنيفهم ككائنات “أخرى” حتى من الناحية الجسدية والصحية، أما الموقف منهم كونهم “مسلمين” فيعكس حقيقة مسألة زيف الديمقراطية والعلمانية بما تقتضيان من تسامح وحيادية. والجانب الآخر من العدائية فهو على المستوى الشعبي، الناتج عن الخطاب السياسي الشعبوي الذي يعزو كثيراً من المشكلات (انخفاض فرص العمل وتدني مستوى الدخل وأزمة السكن وغيرها) إلى تدفق اللاجئين، الذين صار كثير من الشباب يعدونهم منافسا حقيقيا لهم في سوق العمل من دون النظر والتفكر في ظروف هؤلاء المهاجرين التي تطحن عظامهم بسبب قسوتها، بل صار كثير من تلك الدول تبحث عن إيجاد علاقات مع نظام الأسد، الذي هجّر قسراً ملايين السوريين لإعادتهم إلى سوريا، إلى بلد القتل المستمر.
إن مصير اللاجئين وطالبي اللجوء السوريين في أوروبا ينبئ بمخاطر كبيرة قد تطول حياتهم، خاصة بعد موجة التطرف الشعبوي اليميني الجديدة، ووصول هذا اليمين إلى سدة الحكم في عدة بلدان، واضعاً قضية اللاجئين على رأس أولوياته.
يبدو أن كراهية الأجانب، ومنهم المهاجرين في أوروبا الشرقية مرتبطة بالتاريخ السياسي العنيف لتلك الدول وظروف تشكلها والفترة الطويلة التي عاشتها وفق نمط مركزي من الحكم يتمتع بسيطرة أمنية كبيرة، نمط حكم أراد أن يدمج بالقوة عدداً من القوميات ليشكل “مواطنة” من نوع أيديولوجي، مواطنة لا تستند إلى العدالة والقانون، تتسلط فيها الدولة على المواطن، وبالتالي كانت النتيجة أن تلك الخلافات دفنت إلى أجل، وعززت أحقادا انفجرت في لحظة التحول تلك، هذا التحول الذي يستلزم فترة زمنية طويلة وظروف داعمة له من حيث القانون والعدالة، وهو الأمر الذي افتقدته كثير من الدول التي شكلِت حديثاً حتى بالقوة من قبل الغرب والولايات المتحدة، إذ ترغب هذه الدول اليوم في إحياء الهوية الوطنية في بيئة عرقية ثقافية متجانسة، هذا التجانس الذي يشكل كارثة على حقوق الإنسان عموماً وعلى اللاجئين خصوصاً.
اليوم، إن مصير اللاجئين وطالبي اللجوء السوريين في أوروبا ينبئ بمخاطر كبيرة قد تطول حياتهم، خاصة بعد موجة التطرف الشعبوي اليميني الجديدة، ووصول هذا اليمين إلى سدة الحكم في عدة بلدان، واضعاً قضية اللاجئين على رأس أولوياته من خلال خيارات بائسة أبرزها بحث هذه السلطات الجديدة عن إيجاد علاقات مع نظام الأسد لإعادة بعضهم بحجة المشكلات التي يسببونها في تلك البلدان من جهة، ويزعمون أن سوريا أصبحت بلداً آمناً حيث القتال متوقف منذ سنوات، معرضين حياة العائدين للخطر، إذ تؤكد الوقائع مقتل كثير منهم تحت التعذيب في سجون نظام الأسد.
يبدو أن بلدان العبور هذه التي تعيش حالة الانتقال من النظم الشيوعية إلى النظم الديمقراطية لا تزال تعيش تحت عبء الماضي الثقيل إذ لم تنجَز بعد عملية التحول الديمقراطي والعلمنة والاستقرار السياسي والتسامح، وبالتالي تعرض حياة العابرين للحرمان من أبسط حقوق الإنسان، حيث الضرب والسجن والقسر على طلب اللجوء فيها (ما يعرف بالبصمة) ضد إرادة طالبي اللجوء، وبطريقة تنافي مواثيق حقوق الإنسان والاتفاقات الموقعة لاحقاً بهذا الخصوص (اتفاقية روما)، ناهيك عن تنسيق بعض تلك الدول لإعادة السوريين إلى نظام الأسد حيث المصير معروف.
المصدر: تلفزيون سوريا