صــــادق جـــــــلال الــــــعـــــظــــــم: عـــمــــلاق آخــــــر يــــرحــــل

محمد خليفة

من الطبيعي أن نختلف، ويختلف كثيرون من شعبنا السوري ومثقفيه مع مفكر ثقيل من وزن وعيار صادق جلال العظم الذي غادرنا الى لقاء ربه يوم أمس 23 نوفمبر . فالرجل ضالع في أعقد علوم عصرنا الفلسفية والفكرية والدينية والسياسية, وخاض فيها كلها بأسلوب الناقد الرصين, والباحث المجدد الجريء, وهو في كل الاحوال مفكر اشكالي , سجالي , جدالي , لا بد أن تأخذ منه وترد عليه , ولكننا بعد ذلك وفي محصلته لا أشك أننا كمثقفين سوريين لن نختلف على أن الرجل التزم طوال حياته بالخط الوطني التقدمي العقلاني التنويري, ثم توجها بالانغماس العميق والاندغام الكلي في أشرف وأقوى ثورات عصر العرب الحديث منحازا الى شعبه في مواجهته الحازمة مع نظام الاستبداد والتخلف والعبودية المطلقة والمذهبية الباطنية وقيم القروسطية التي فرضها علينا حزب توتاليتاري تحول ثكنة للعسكريتاريا ثم الاستخباراتية وطوطم أو وثن يدعى حافظ الاسد, وولده , فكلاهما رفعا شعار ( سورية الاسد ) وشعار العدمية المطلقة ( الاسد أو لا أحد ) و( الاسد أو خراب البلد ) وهو ما لم يقله حتى الله جل في علاه بل قال ( وإنا أو إياكم لعلى هدى ) وقال ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .

منذ اليوم الأول للانتفاضة الشعبية عام 2011 انحاز لها لأنه مثل كل السوريين فاض نهرغضبه , كيف وهو الذي يحس ويشعر ويرى ويفكر ويحلل ويقارن بحجم مليون مواطن عادي , وبوزن الف مفكر ومثقف واع .

 ثم تطور موقف الفيلسوف الراحل بتطورالانتفاضة فأعلن موقفه , واصطف في طليعة المنتمين للثورة والملتحمين بخطابها الوطني الداعي للحرية والاصلاح والتغيير الجذري واسقاط نظام الطغيان .

اتهمه أعداء الثورة من المثقفين الحراتقة والهراطقة أمثال ادونيس بالنكوص الى الرجعية وموالاة الاسلاموية السورية والعربية , وبقية المتكلمين الذين تذرعوا بالاديولوجيا الرثة العلمانية واليسارية , واتهموه بالسقوط والعودة الى احضان بيئته السنية الرجعية (!) .. ولكنه تصدى لهم بهدوء ورصانة مزدريا اسفافهم ومتعاليا على تعاليهم على الشعب , وعنصريتهم الثقافية , وانفصالهم عن الواقع , واستبدادهم الفكري الذي لا يقل عن استبداد الاسد وعسكريتاريته .

صادق جلال العظم كان منذ ظهوره في الستينات مفكرا مرتبطا بمجتمعه رغم أنه عاش معظم حياته في الغرب أو في محافل علمية غربية ولكن ارتباطه بسورية وقضاياها كان ميزة فارقة في كل منهجه وانتاجه وحركته . ولذلك دخل السجن , وناضل في مواقع سياسية متصلة بحرارة بالواقع , ظلت اجهزة استشعاره حساسة وشفافة .

في عام 1995 شارك في مؤتمر فكري حاشد في ستوكهولم نظمته وزارة الخارجية السويدية , وكانت فرصة لي لألتقيه وأتعرف عليه عن قرب . وفي احدى الجلسات الضيقة سألته عن بعض الاسماء الاكاديمية البارزة في سورية .. فأجابني : ليس في جامعة دمشق كلها استاذ واحد من الذين تسألني عنهم , الكل هربوا أو غادروا, وهناك شواغر كثيرة في كلية الفلسفة يملؤها معيدون صغار . قلت له : إذن كيف تتحمل أنت العمل في هذا المناخ ..؟ فسرد لي كيف طلبت منه جامعة دمشق والوزارة العودة للتدريس بدمشق , والشروط التي وضعها هو عليهم قبل أن يقبل . وقال لي :أردت أن أعود لبعض الوقت لكي أطلع وأدْرُسُ الوضع الذي وصله بلدنا , أكثر مما هو لكي أدَرِّسَ في الجامعة , وأكد أنه سيغادر قريبا .

صادق جلال العظم يلحق بجورج طرابيشي , ويموت في المنفى , وكأن سورية بالنسبة لنا مجرد ممر في رحلة الحياة الطويلة وليست مستقرا .

كتابه ( نقد الفكر الديني ) كان عنوانا لمرحلة بارزة في تاريخ سورية المعاصر السياسية والفكرية .

يرحمه الله بواسع رحمته .

المصدر: صفحة محمد خليفة على الفيسبوك.

24_ 11_ 2016.

تعليق واحد

  1. نعوة جديرة بالكاتب والمفكر والفيلسوف الدكتور “صادق جلال العظم” لروحه الرحمة، المفكر الإشكالي, ولكننا كمثقفين سوريين لن نختلف على أنه التزم طوال حياته بالخط الوطني التقدمي العقلاني التنويري, وتوجها بالانغماس العميق والاندغام الكلي في أشرف وأقوى ثورات عصر العرب الحديث “الثورة السورية” رحم الله الكاتب والمناضل العروبي “محمد خليفة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى