وعي المخاطر في المجتمعات العربية

المهدي مبروك

كانت كارثة تشيرنوبيل، في ربيع سنة 1986، ناقوسَ خطرٍ أنذر أوروبا (والغرب عموماً) بدخول عصر المخاطر. كانت تلك الكارثة النووية، التي وصلت ذيولها إلى الشرق الأوسط بعد أشهر قليلة، قد برهنت لمن له وعي أن البشرية قد دلفت حقبةً تعولمت فيها المخاطر. اعتقد الجميع أن التكنولوجيا ستزيل الحدود بين الفِكَر والمعارف والمهارات والعقائد وطرائق العيش، غير أننا، وفي غفلة، تجاهلنا أن التكنولوجيا نفسها ستزيل أيضاً الحدود بين الدول، لتتنقل الكوارث وتتجوّل بينها غير مبالية.
ارتفعت الوتيرة خلال العقود الثلاثة الماضية، فسرّعت التكنولوجيا الرقمية انهيار الحدود بين البلدان، وإذ استفادت البشرية من هذا الطوفان الهادر من المعلومات والتطبيقات والفِكَر والمشاريع، فإنها أيضاً عجزت عن التصدّي منفردةً للجرائم السيبرانية التي حطّمت جلّ أشكال التحصّن والرقابة؛ التلصّص، التحايل، الهجمات الرقمية، حتى ذهب العديد من المؤسّسات والهيئات والشركات والدول ضحيةً لهذه الاعتداءات الخطرة، التي تشكّلت لها عصابات وفرق فائقة القدرة على توظيف المعارف والمهارات. يسعى العديد من المنظّمات إلى بعث تحالفات إقليمية ودولية من أجل التصدّي لهذا النوع من الحروب الجديدة، التي ألقت بها التكنولوجيا التي انهارت أمامها الحدود السيبرانية. تشكّلت منذ تلك اللحظة الفارقة مخابرُ بحث وأقسامٌ بأكملها، في جامعاتٍ ومراكز بحوث وطنية وإقليمية من أجل التخصّص في إدارة المخاطر، والوقاية منها. جهودٌ ضخمةٌ بُذِلت في العالم العربي، ولكن تظلّ ضئيلةً وغيرَ ذات جدوى، باستثناء حالات نادرة.

تعاني جلّ البلدان العربية من آثار بارزة للتغيّرات المناخية، وربّما كان الموقع الجغرافي للوطن العربي قد زرعنا في أتون هذه التحوّلات الحادّة

كما شهدت هذه العقود الثلاثة، في تزامن مثير، تسارعَ وتيرة التغيّرات المناخية. تقع البلدان العربية جلّها في “الجنوب”، المنطقة التي لا تساهم كثيراً في انبعاث الغازات الدفيئة، باستثناء حالات نادرة يساهم فيها استخرج البترول في التلوّث، ولكن تظلّ الصناعات الثقيلة في بلدان “الشمال” المصدر الأكبر للتلوّث. تباينت المواقف في المؤتمرات والقمم التي تُعقد من أجل ابتكار الحلول الكفيلة بالحدّ من هذه الظاهرة، وما خلّفته من أخطار محدقة بالجميع، بشراً وحيواناً ونباتاً، ولكن لا يكمن المشكل في عبقرية الخيال البشري وعجزه عن العثور على وصفات تخفّف من حدّة الكارثة التي تزحف بسرعة فائقة، بل إنه يكمن في أن أكبر ضحايا التغيّر المناخي دول غير مُصنِّعة، أخفقت في تدبّر المشكل منفردةً، إذ ترشّح الأمم المتحدة أن تكون قارّة أفريقيا أكثر عرضةً (خلال السنوات القليلة المقبلة) لتأثير هذه التغيّرات. تعاني جلّ البلدان العربية من آثار بارزة لهذه التغيّرات المناخية، وربّما كان الموقع الجغرافي للوطن العربي قد زرعنا في أتون هذه التحوّلات العميقة والحادّة. إننا في منطقة رخوة وهشّة، يشكّل الجفاف المُستفحِل منذ عقدَين معضلةً حقيقيةً يبرهن عليها تراجع التساقطات من سنة إلى أخرى، غير أن الأمر لا يعود إلى جفاف دوري، بحسب الخبراء، اعتادت عليه الجماعات البشرية الساكنة في المنطقة، بل إلى تغيّرات مناخية يصعب تماماً أن نعود بها إلى الوراء.

يقول الخبراء إننا مقبلون فعلاً على تحوّلات عميقة في المناخ ما سيضاعف الحاجة إلى المياه

يقول الخبراء إننا مقبلون فعلاً على تحوّلات عميقة في المناخ، ما سيضاعف الحاجة إلى المياه، سواء مياه الشرب أو مياه الريّ والأنشطة الزراعية عموماً، وستكون المنطقة العربية أكثر عرضةً لهذه المخاطر. لا تعدّ هذه التغيّرات مُجرَّد أرقام تشمل الحرارة والماء والمساحات المروية والغابات والمراعي، بل تضع في الواجهة أيضاً جماعاتٍ وفئاتٍ بشريةً وأنشطةً تكون عرضة لأشكال مختلفة من التحلّل والتلاشي، وحتى الفناء. قد تختفي هذه التعبيرات والبنى المادّية والرمزية تحت مفعول هذه العوامل كلّها. لقد رأينا هجراتٍ داخليةً في العالم العربي ترتفع وتيرتها، وهي أشبه بالنزوح القسري، إذ تدفع التغيّرات المناخية (الحادّة والمتطرّفة) فئاتٍ واسعةً من السكّان إلى الهروب من تلك المناطق المنكوبة. تشتدّ صراعات محلّية بين حين وآخر بين جماعات بشرية تسكن تلك المناطق، تآلفت حقباً طويلة. يتحول ضحايا تلك التغيّرات المناخية جناةً يتورّطون في نزاعات دموية رهيبة. يقدّم السودان (الشقيق) أحد الأمثلة الدالة على ذلك، والأكيد أن تلك النزاعات تتغذّى من مختلف أشكال الهشاشة والتمييز القائمة في مجتمعات متعدّدة على عوامل الإثنية واللون والدين والمذهب. تختفي في مجرى هذه التهديدات المتعدّدة ثقافات، أعراف وطرق عيش ومهارات راكمها الأجداد، ما يهدّد الذاكرةَ والهُويَّةً بالتحلّل والنسيان.
عاشت ليبيا والمغرب، بعد وباء كوفيد-19، أعتى التجارب المرعبة التي عجزت معها الدولتان عن إدارة فعّالة للكوارث الطبيعية المدبَّرة. يقول بعضهم إن هذا يحدث في جلّ بلدان العالم، ولكن حين نحصي ضحايا أكبر الكوارث الطبيعية، ستظلّ الأعداد عموماً محدودة في الدول المتقدّمة، بينما تتفاقم في بلداننا لأسباب عديدة ومتضافرة؛ عدم الوقاية منها؛ الإدارة السيئة لها؛ الانقسامات السياسية والصراعات الأهلية؛ غياب “ثقافة المخاطر”.
كان كارل ماركس يصرّ على خطورة القمع، ولكنّه أضاف إليه مُكرَهاً (صنّفه عاملاً مثالياً) أهمّية وعي القمع. لا يشكّل استحضار المخاطر التي تهدّد العالم العربي المهمّة الضرورية، وهو الأكثر عرضةً لها مقارنةً بفضاءات أخرى، إذا أغفلنا شرط وعي المخاطر ذاتها.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى