أوباما، بايدن، والواقعية في الشرق الأوسط

توماس جونو ترجمة: علاء الدين أبو زينة

جادل المراقبون منذ فترة طويلة بأن السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما بشكل عام، وتحديداً في الشرق الأوسط، كانت متسقة مع الواقعية؛ البعض قالوا ذلك بلهجة موافقة، والبعض الآخر بنزعة انتقاد. وهناك بطبيعة الحال عدة أنواع من الواقعية؛ لا يوجد إجماع على ما تنطوي عليه سياسة خارجية “واقعية”. وفي حالة أوباما، يشير المؤيدون والنقاد عمومًا إلى الواقعية الدفاعية، وهي صيغة حذرة وحكيمة تدافع عن سياسة خارجية أكثر انضباطاً وتقييداً. ويدعو الواقعيون الدفاعيون، على وجه الخصوص، إلى تقليص البصمة الأميركية في المنطقة ووضع عتبة أعلى للتدخل العسكري فيها.
في مقال أكاديمي حديث، قمت بتقييم هذا الادعاء وتحليل تداعياته. وخلصت إلى أن جوانب سياسة أوباما في الشرق الأوسط كانت متسقة مع مفهوم الواقعية الدفاعية. فقد مارس أوباما، على وجه الخصوص، ضبط النفس في استخدام القوة بالامتناع عن التدخل على نطاق واسع في سورية.
وكان إنجازه المتمثل في إبرام الصفقة النووية مع إيران من سياساته الأكثر انسجامًا مع مبادئ الواقعية الدفاعية: فقد اعتقد أن هوس أميركا بإيران أدى إلى تصاعد خطر تورطها في صراع غير ضروري. وبدلاً من ذلك، أدى نهجه المعاملاتي الذي يعتمد على تقييد البرنامج النووي الإيراني إلى احتواء تهديد محدود تمكن إدارته.
وكانت سياسته تجاه “داعش” سليمة أيضًا: فقد فعل ما يكفي فقط بعد العام 2014 لاحتواء التنظيم ثم دحره بثبات بعدد محدود من القوات، بينما تجنب التورط المكلف. وفي الوقت نفسه، يأسف الواقعيون الدفاعيون لحقيقة أن جوانب أخرى من سياسته كانت غير متسقة مع وصفاتهم، خاصة عدم قدرته على إبعاد الولايات المتحدة عن المملكة العربية السعودية ومصر وإسرائيل، وقراره المشاركة في التدخل الذي قاده “الناتو” في ليبيا.
يصبح هذا النقاش ذا صلة الآن بشكل خاص مع تزايد احتمالات قدوم رئاسة يديرها جو بايدن، بينما يدعو الكثيرون في الحزب الديمقراطي إلى انتهاج سياسة أكثر واقعية في الشرق الأوسط. وبشكل عام، سوف يكون مثل هذا النهج مفيداً للأمن الأميركي.
مع ذلك، ثمة شيء غائب عن النقاش إلى حد كبير، هو اعتراف أكثر انفتاحا بمحدوديات الوصفات الواقعية: من المهم أن يكون المؤيدون شفافين حول المخاطر التي ينطوي عليها هذا النهج، وأن يفهموا كيفية إدارتها بشكل أفضل. وثمة سابقة لتوجيه مثل هذا التحليل: ما هي التكاليف التي ترتبت على إدارة أوباما بسبب تطبيق بعض عناصر السياسة الواقعية؟
عواقب الوصفات الواقعية الدفاعية
ثمة شيء مركزي في الواقعية الدفاعية هو المبدأ القائل بأنه عندما يكون الوضع الراهن مفيدًا، فإن مصلحة الدولة تكمن في تجنب التغيير. وتُظهر السياسة الأميركية في الشرق الأوسط مدى غياب الكمال عن هذا المبدأ. كان الوضع الراهن مفيدًا للولايات المتحدة بين العامين 2009 و2017: لم يهدد انعدام الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط مصالحها الحيوية، وظلت القوة الخارجية السائدة، وكان شركاؤها أقوى اللاعبين في الإقليم.
ومع ذلك، كان ذلك الراهن معيباً للغاية: كانت حمايته تنطوي على ظروف استدامة بعيدة كل البعد عن المثالية، ليس بالنسبة للولايات المتحدة بشكل خاص، وإنما بالنسبة للآخرين. وبالتالي، سوف يكون من الانتقاد المشروع القول بأن السياسة الواقعية تدير المشاكل بينما تقوم بإدامتها وتركها للآخرين.
تستدعي الواقعية الدفاعية مقاربة انتقائية للتدخل، لكنها تقدم القليل من الخطوط التي يمكن الاسترشاد بها. وهذا انتقاد مشروع أيضاً، لكنه يتضمن جميع أطر الاستراتيجية الكبرى باستثناء الانعزالية الأكثر صرامة: لا يوجد شيء مثل التوجيه الدقيق الذي يشرح بدقة متى يتم التدخل وكيف. وحتى أكثر مؤيدي الانخراط العميق عدوانية يواجهون هذا التحدي في المعايرة.
عندما تتعرض المصالح الحيوية للتهديد، تدعو الواقعية الدفاعية الولايات المتحدة إلى التدخل باستخدام الأصول البحرية وتنشيط الشبكات البرية للقواعد والمنشآت الموجودة مسبقًا بدلاً من نشر أعداد كبيرة من القوات بشكل دائم. ومع ذلك، فإن هذا البناء يستغرق وقتًا: إنه يتضمن تحديد اللحظة المناسبة، وتعبئة القوات، وبناء الإجماع المحلي، وتجنيد الحلفاء.
في واقع الأمر، يؤكد النقاد على أنه عندما أراد أوباما تصحيح ما اعتبره إفراطا في التمدد في زمن إدارة بوش، أخطأ في جانب الحذر، فاتخذ موقفاً مفرطاً في التحفظ والانكماش. ومرة أخرى، تجب الموازنة بين مثل هذه التكاليف وبيت البدائل: إن إغراء الإمبريالية المفرطة في التمدد يشكل تهديدًا أكبر لقوة عظمى من إمكانية الدخول البطيء في أزمة. وهذا ينطبق بشكل خاص على قوة عظمى آمنة جغرافيا، والتي تستفيد من ميزة كونها قوة كبيرة.
أحد ركائز الواقعية الدفاعية هو أن تتوقع الولايات المتحدة من الشركاء الإقليميين فعل المزيد، مما يسمح لها بتركيز الموارد النادرة بشكل أفضل على المجالات ذات الاهتمام الأكبر وتجنب التشابكات غير الضرورية. لكن تفويض العمل لآخرين يزيد المخاطر. قد يتغير الشركاء الإقليميون فجأة نتيجة انقلاب أو ثورة، كما حدث مع إيران بعد العام 1979. وفي حالات أخرى، قد يفعل الشركاء الإقليميون المزيد، لكن إجراءاتهم الإضافية ربما لا تكون متساوقة مع المصالح الأميركية.
يشكل التدخل السعودي في اليمن مثالاً على ذلك: عندما شجعت إدارة أوباما الرياض على لعب دور إقليمي أكثر نشاطًا، تحولت السياسة الخارجية السعودية من خجولة إلى عدوانية. وهذا انتقاد صحيح، ولكن مرة أخرى، يجب موازنته مع بدائل معقولة: إن الحفاظ على تواجد أميركي أكبر لا يسمح لواشنطن بالسيطرة على تصرفات الشركاء الإقليميين.
حتى لو قبل الشركاء المحليون بتحمل حصة أكبر من عبء الأمن الإقليمي، فإن التفويض ينطوي غالبًا على التوافق مع جهات بغيضة أخلاقياً. وهو شأن إشكالي على الأرضية الأخلاقية، والذي يساعد على إدامة الوضع غير المريح في البلدان القمعية والوحشية مثل بعض حلفاء أميركا في المنطقة. ومرة أخرى، فإن الحجة المضادة هي أن الانخراط العميق لم يمنح الولايات المتحدة الكثير من النفوذ والتأثير على سياساتها الداخلية أيضًا. وعلاوة على ذلك، إذا أرادت الولايات المتحدة أن تطلب من الشركاء الإقليميين القيام بالمزيد، فيجب أن تضمن حصولهم على المهارات والقدرات اللازمة. ومع ذلك، فإن لبرامج بناء القدرات سجل مختلط. قد يوفر بناء القدرات حلولاً تقنية للمشكلات السياسية: يمكن للقوى الشريكة الأكثر فعالية أن تساعد في إدارة التحديات الأمنية، ولكنها لا تحلها. وغالبًا ما يوفر هذا حلولًا قصيرة المدى، والتي تخلق تكاليفاً طويلة المدى حيث تساهم قوات الأمن هذه في خلق الظروف التي تسمح للإرهاب بالازدهار.
الانتقاد الشائع الآخر هو أن الواقعية تشجّع الخصوم من خلال خلق فراغات يمكنهم استغلالها. ووفقًا لهذا الرأي، ساهم انسحاب الجيش الأميركي من العراق في العام 2011 في ظهور تنظيم “داعش”، بينما سمح الفشل في التدخل لروسيا وإيران بالسيطرة على سورية. لكن الواقعيين يجادلون بأنه يمكن للولايات المتحدة، كقوة عظمى آمنة خارج المنطقة، أن تتحمل ذلك، ويمكنها أن تستفيد من المنافسين الذين يستثمرون بكثافة في منافسات أمنية مكلفة. في سورية، تخلت واشنطن عن الفضاء لموسكو وطهران. ومع ذلك، فإن الأخيرة مسؤولة الآن عن دعم نظام الأسد المجوّف الذي يحكم أجزاء من البلد المدمر. وحتى على الرغم من أنهم حققوا هدفهم في تأمين بقاء الأسد، إلا أنهم أصبحوا عالقين في مستنقع من دون استراتيجية خروج قابلة للتطبيق.
سوف يجلب انتهاج سياسة واقعية متماسكة في الشرق الأوسط –وما وراءه- فوائد أكبر من التكاليف. ومع ذلك، ثمة اتجاه طبيعي بين المؤيدين إلى الإفراط في بيع هذه الفوائد والتقليل من شأن التكاليف. وحتى تكون السياسة الواقعية ناجحة، يجب أن يكون المؤيدون شفافين بشأن سلبياتها، وأن يكونوا في وضع أفضل لإدارة هذه السلبيات أو التخفيف من آثارها.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Obama, Biden and realism in the Middle East

المصدر: الغد الأردنية/(ريسبونسيبل ستيتكرافت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى