طلاق عائلات سورية في هولندا بسبب الخضوع لعلاج صدمات ما بعد الحرب (التراوما) 1

أحمد جاسم الحسين

أهلاً بالسيدة الصبورة، المتميزة، المعتمدة على نفسها، التي وقفت آلاف الساعات؛ وهي تطبخ الملوخية والبامية والمحاشي والشيشبرك وتعد أطباق التبولة والفتوش…

لأكون صريحاً معك، حين نظرتُ في سيرتك الذاتية، قلت: كيف لشخصية مثلك أن تقوم بكل ذلك خلال هذه السنوات! يالك من سيدة عظيمة!  وفوق ذلك: تربية خمسة أطفال، وكذلك تتحملين رجلاً شرقياً، اعتاد أن يجد كل شيء بانتظاره!

يبتسم المعالج: الرجل الشرقي مشكلةٌ للعالم كله، فكيف لا يكون مشكلة لزوجته!

نعم ، نعم، يا سيدتي، العلاج النفسي في ثقافتكم شيء معيب، لكن نحن لدينا مراكز الـ 45 نسبة إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خضع معظم الهولنديين للعلاج النفسي!

وتبدأ السيدة الصبورة المعطاءة، الأم المثالية بسرد قصتها ومعاناتها الاستثنائية، وحكاية كل أم سورية، بمعنى من المعاني، هي حكاية استثنائية!

تسرد قصتها لأولئك المختصين النفسيين الذين يعيشون على أموال التأمين الصحي. ومهمتهم الرئيسية هي نهب أموال الموطنين الهولنديين عبر التامين الصحي من خلال تضخيم مشاكل الشخص، والنفخ فيها حتى تغدو بالوناً، قابلاً للانفجار!

هنا يحضر البعد الفلسفي والاختلاف الشديد، بين فلسفتين أو خيارين شرقي وغربي: – الفردانية – أو العائلة والجماعة، أيهما ستختار، التعاقدي أم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، على أن الخيارين لا يتنافران كلياً ويمكن أن نجد خطاً وسطاً بينهما يقوم على عدم أذى الآخر!

والسوري/ة بعد تعب اللجوء باتت تعجبه فلسفة الفردانية، لأنها تتيح له أن يرتاح، وتنفخ في منجزاته وتداعب أنانيته ونرجسيته ومجده المفقود في بلد الياسمين، وتساعده على التخلص من ماضيه المتعب، الذي تعاونت عليه ظروف عدة بمن فيهم الأهل، لكن تقتضي هذه المرحلة أن نحمِّل كل شيء للشريك والأطفال!

في غرفة هناك، تقول المعالجة النفسية لأم مثالية أخرى: أين أنت في القصة؟ كل ما سمتعه عن زوجك وأطفالك؟ أين أنت؟ أين ما تحبين وما تكرهين؟ أنت تحدثينني عما صنعتِه للآخر؟ لكن أين ظلك أنت؟ سمعتُ منك آلاماً لا تتحملها الجبال من هذا الرجل النرجسي! وأولئك الأولاد الذين يعتبرونك بقرة لا بد من حلبها، كل يوم، بحجة الأمومة!

ارفعي صوتك، وقولي لهم: البقرة تعبت! ولم يعد لديها حليب، كل شخص يجب أن يجد حليبه بنفسه!

نحن هنا في هولندا لا يوجد لدينا هذا النمط من التضحية العظيمة التي قمت بها؟

لماذا يوجد مفهوم التضحية والإيثار وتقديم الآخرين على النفس وما قيمته وأين يُصرف؟

سأذكِّركِ بحكمة قديمة مرتْ معك بالتأكيد، ربما تستعملينها أحياناً: حين تبدأ السفينة بالغرق أنقذي نفسك أولاً لتستطيعي أن تنقذي الآخرين، هل تذكرين فيلم “تايتانيك”!

وتنطبق هذه الحكمة كذلك على مسافري الطائرة حين تشرح المضيفة عملية الإنقاذ قبل إقلاع الطائرة، صحيحٌ أن أحداً لا يلتفت إليها، وتقوم بعملها كآلة، لكن حسبها أن تقوم بما هو مطلوب منها وتنصحك أن تنقذ نفسك أولاً ثم تفكر بإنقاذ الآخرين!

أنتِ الآن كائن مهدم ومتدهور، عليك أن تعالجي نفسك أولاً حتى تستطيعي أن تقدمي شيئاً للآخر، لاحقاً، لكن أعدكِ أننا سنتساعد معاً لتغيير فلسفتك، ويغدو تقديم المساعدة للعائلة حقاً ضئيلاً في حياتك بعد أن أكل عمركِ!

ما العائلة؟ العائلة اختراع أوجدته البشرية لاستغلال الأمهات! العائلة بالنسبة للرجال تتمة لزعامتهم ومكانتهم، خاصة أن الأبناء سيحملون أسماءهم، وليس اسمكِ، تخيلي بعد كل هذا التعب والشقاء تصبحين نكرة في حياة أطفالك، ويسجل المنجز للأب، ويحملون كنيته؟

عليك أن تكسري قمقم العائلة ودور الأم ومفهوم الاهتمام بالأطفال، ليس حباً بالتدمير، بل كي تنقذي نفسك!

عليك أن تشتغلي على شبكة علاقات خاصة بك، وليس من أجل خدمة العائلة!

العائلة والأولاد سيتخلون عنك، والزوج نفسه، خاصة أنتم لديكم الزواج من أكثر من امرأة مسموح، إنْ وجد صبية حلوة قد يلحقها و يتركك! وقتها ستقتلك الوحدة واللوم!

أتيتِ إلى عيادتنا في اللحظة المناسبة، المرأة الغبية هي التي لا تتعلم من تجارب الأخريات، صدقيني كل النساء المتميزات في العالم هن نساء كسرن أطر الأهل، ثم اخترن الطلاق، أو الحياة الفردانية طريقاً لهن!

تصحو الأم فجأة وهي تنظر إلى المرأة بعد الدرس الفلسفي الأول الصعب الذي تلقته في جلسة الأسبوع الماضي. تتفقد جسدها، وصدرها المتهدل، والمسامات في خديها، وكذلك تصحو على بطن بدأت طياتها أكثر من رشاقتها، وأشياء عدة بدأت تتهدل، تتذكر أنه كان لديها كراسي خديْن ذات يوم، وغمازتان لافتتان وجسد ممشوق!

ما الذي حدث لي؟ وكيف أفنيتُ عمري بحجة الأمومة وواجبات الزوجة، وها أنا مصابة بالدوالي نتيجة العمل بالمطبخ، وفوق ذلك لا أحد يعترف بعمل المرأة في المطبخ ولا يقدر ولا ينظر إليه باحترام عبر التاريخ؟

كيف كنتُ مغيبةً مخدرة عبر أكثر من ربع قرن، ما هذه الأمومة الشرقية التي تستنزفك؟ وما هذا الزواج الذي ينظر إليك كأداة وحين ينتهي مفعول الإغراء في جسدك يرميك جانباً!

لماذا صديقتي المتزوجة من هولندي لم تمر بمثل هذا الزواج؟ ما ذنبي أنْ أولد في مجتمع شرقي؟

بئس العائلة وبئس الزواج وبئس المؤسسة التي تسمى عائلة، ويقوم عمادها على المرأة لكن لا أحد يعترف بجهودها! آن الأوان، وصبري نفد، سأهدم هذه المؤسسة وأتخلى عن أولئك الأولاد الأغبياء، وسأضع مفهوم المسؤولية في اخلزانة العتيقة التي رميتها ذات يوم!

سأجعل الزوج عدواً لي فيما تبقى من عمري، وأنا التي لا أستطيع العيش دون أعداء! الأعداء يولِّدون الغضب، والغضب أهم دافع للإنجاز، وأنا امرأة تحب الإنجاز وتكسير القوالب والأنماط! الغضب والسخط والمعارك جسري نحو مستقبلي المتميز دون أولاد أو زوج!

صدقتْ تلك الروائية النسوية المتحمسة حين كتبت يوماً: “الزوجة حين يتقدم بها العمر تغدو بنظر زوجها سيارة مستعملة، كلفة إصلاحها أكبر من شراء سيارة جديدة!

والأم بنظر أولادها، بعد أن كبروا، سيارة “أنتيك” من موديل قديم، أفضل شيء تقدمه لنا أن نتصور معها ونضعها حالة أو بروفايل، فأفكارها لم تعد تعجبنا، وباتت غير قادرة على العطاء!

سينسون ذلك الجهد الجبار الذي بذلته لخدمتهم عبر أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً!”

وجد المعالج النفسي، في الجلسة التالية، أن  الضحية صارت جاهزة لخطوة جديدة:

– سأقول لكِ بكل صراحة ما عليك فعله: كل ما يؤلمك ابتعدي عنه!

– حتى لو كان زوجي وشريك عمري وحبيبي، الرجل الذي قضيت معه ثلاثين عاماً؟

– نعم! بالتأكيد، ألم يتسبب لك، خلال هذه الثلاثين عاماً، بسنة أو سنتين، من  الألم أو عدم التفاهم؟

– بلى، لكن هناك ثمانية وعشرون عاماً أخرى، فيها تفاصيل جميلة؟

تماماً، هذا دورنا!

وهذا العلاج الذي يجب أن نعمل عليه، علينا أن نضع السنتيْن مقابل الثمانية وعشرين عاماً في الميزان، ونكبِّر شعورك بآلام السنتيْن لنجعله بحجم منجزات الثمانية والعشرين عاماً التي يجب أن نُصَغّرها، ونستهين بها ونغمض العين عنها!

– لكن هذا اسمه قلة ضمير ووجدان وأخلاق وقلة أصل، وأنا امرأة لها أصل وحسب ونسب!

– انسي هذه المصطلحات، فهي لم تقدم لكِ الإنصاف يوماً!

عملنا نحن الأطباء النفسيين، ودورنا أن نخفف ألمَ من يزورنا، بالاشتغال على نظرية “التخلي”؟

– التخلي؟ عن حبيبي وزوجي وأولادي؟

– التخلي عن كل ما يؤلمك!

– حتى لو كانوا أولادي وحبيبي؟

– أولادك وشريكك ليسوا أوْلى من جسدك وروحك المتعبة، أنت لا تتخلين عنهم، أنت تبتعدين كي تصبحي قوية ثم ستسطيعين أن تساعديهم في المستقبل؟

– نعم معك حق! ولكن هل سيبقى في العمر بقية؟

– في هولندا معدل الأعمار لدينا ثمانون عاماً، وأنت أصبحتِ سيدة هولندية، أمامك ربع قرن أو أكثر!

– هل من خطة بـ ألم أقل لي ولهم؟

– نعم فلسفة التخلي والاهتمام بالذات، الذات أولاً؟ هي المنطلق والمحجّ والبداية والنهاية؟

– وماذا ستقول روحُ أبي وأمي عني، ربما ستلعنني؟

– لا، لا تعودي، إلى مثل هذا الكلام، أنت إنسانة متميزة جداً، وكل مشاكلك بدأت من الآخر، لأنك قضيتِ معظم عمرك تعطين الآخر أكثر مما يستحق، وكان الآخر لديك هو الميزان والمعيار والتعب والجهد، لكن انظري إلى النتيجة!

في الفلسفة الجديدة؛ التي عليك أن تتبعيها، اجعليْ نفسك المنطلق والمآل!

– لكن هذا سيؤدي بالضرورة إلى الطلاق والتخلي عن مسؤوليتي تجاه الأولاد وأنا أحبهم!

– وليكن، ما المانع؟ أكثر من سبعين بالمئة من الهولنديين والهولدنيات مروا بتجربة الطلاق والتخلي، الحب مدمِّرٌ كبير وأكبر سجن في العالم!

– ألا أكون بهذا الخيار الجديد خائنة لقيمي وأموتي ومسؤوليتي وخياراتي وديني وعاداتي وتقاليدي وروح أمي وأبي، إنْ مشيت في نظرية التخلي، دون ضوابط، وابتعدتُ عن كل ما يؤلمني؟

– الخيانة مفهوم شرقي، عليكِ أن تنسيه هنا نهائياً، اهتمي بنفسك فحسب، أنتِ أولاً وثانياً وعاشراً!

– ألا أكون بهذا الفعل الذي تدعونني إلى القيام به، شبيهة بـ “ترامب” حين أقدِّمُ أنانيتي على واجباتي كـ أم وزوجة وحبيبة! ترامب الذي يشتغل على فكرة “أميركا أولاً” حيث يقودها إلى التخلي عن مسؤولياتها الاجتماعية والعالمية والأخلاقية والإنسانية والابتعاد عن متطلبات المناخ والطاقة النظيفة، مقدماً عليها فكرة “الأولوية لمن يدفع”؟

بصراحة: أكره أن أشْبِه مغتصباً ومجرماً وخائناً وبائعاً، ورجلاً بلا قيم أو مبادئ، أكره أن أشبه رجلاً بالعموم؟

لا عليكِ، الأمور نسبية وتقبل الصح والخطأ، أكثر من نصف الشعب الأميركي انتخبه، وتسابق رؤساء العالم للتواصل معه، أليس كذلك!

لا عليكِ “دونالد ترامب” فكرة، يحتاجها العالم والفكرة لا تموت وقد تولد مرة ثانية و ثالثة!

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى