قدّمت مصر لحركتي حماس وفتح أخيراً مقترحَ تشكيل لجنة تتولّى إدارة الشؤون المدنية والإغاثية في غزّة، بما في ذلك الإشراف على المعابر. وسبق أن طرحت الفكرة في أغطس/ آب الماضي، بينما ناقشت الحركتان بنود المقترح في زياراتٍ للقاهرة، خلال الشهرين، الماضي أكتوبر/ تشرين الأول والجاري نوفمبر/ تشرين الثاني، تلاهما لقاء جمع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هامش اجتماعات المنتدى الحضري العالمي (4 – 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، الذي تضمّنت جلساته تسليط الضوء على وضع السكّان في غزّة، وكذلك ملفّي المساعدات والإعمار.
وتحاول مصر مدفوعةً بعواملَ ذاتيةٍ عدّة، أمنية واقتصادية، وضمن أدوار الوساطة، التحرّك في أصعدة ثلاثة فيما يخصّ إدارة غزّة ومستقبلها، والوضع الإنساني الراهن والمتأزم، فهي في الساحة الفلسطينية، تناقش القوّتان الأبرز (حركتي حماس وفتح) وتحاول إزالة العوائق من أجل إنجاز تشكيل كيان يتولّى مسؤوليات الإغاثة حالياً والإعمار مستقبلاً، بالتزامن مع تحرّكها على مستوىً دولي وإقليمي لتهيئة ظروف وآليات عمل اللجنة حالة تأسيسها، ومنها على مستوى سياسي، لضرورة التوافق حول اللجنة، وأنها لن تُحدث صدعاً جديداً، وكذلك توفير الموارد المالية والدعم السياسي. وارتباطاً بذلك، جاء إعلان الخارجية المصرية التحضير لمؤتمر دولي خلال شهر، بمشاركة وكالات الأمم المتحدة، ويتكامل هذا التحرّك مع التنسيق مع الدول العربية والإسلامية، التي تعقد مؤتمرها الثاني في الرياض، وتراجع ما تحقّق من توصيات القمّة السابقة، وبينها بنود معالجة تداعيات العدوان، وكسر الحصار وإيصال المساعدات، وملفّ الإعمار، على أن تعرض القاهرة ما توصّلت إليه من نتائج بشأن لجنة إدارة غزّة، لتكون أداةً لجذب الأطراف، ومستقبلاً، النواة التي تتولّى إدارة القطاع، بما فيها تلقّي المساعدات وتوزيعها، والإعمار بعد انتهاء العدوان.
يحاول مقترح اللجنة حلّ مشكلة ملفّ المساعدات، وتجاوز الخلاف الفلسطيني بشأن إدارة غزّة، ويعطي أرضيةً لمواجهة التعنّت الإسرائيلي، ورفضه الانسحاب من القطاع إذ ما ظلّت “حماس” تتولّى السلطة. وكذلك يساهم في مجابهة سيناريوهات منها إعادة احتلال القطاع وحكمه عسكرياً، أو إدارته عبر استجلاب قوات أجنبية، وتدويل الأزمة بمشاركة عربية، وكلاهما طرحان لا يمثّلان الخيار الأمثل للقاهرة، ولا ينفيان مشاغلها فيما يتعلّق بأمن الحدود، الذي يتطلّب انسحاباً كاملاً لقوات الاحتلال من القطاع، بما في ذلك محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وكذلك ترفض المقاومة أيَّ وجود للاحتلال في القطاع، وتتخوّف من مسار تقليص مساحته، وتقسيمه، وقطع الصلات بين أجزائه، بما في ذلك حصار مشدّد لشمال غزّة، يهدف لتهجير ما تبقّى من سكّانه (ما يقارب 400 ألف)، وتهديدات باستمرار العمليات العسكرية ستة أشهر في الشمال، هذا إلى جانب فصل الجنوب عن الوسط، وتمركز في جنوب القطاع، والاستمرار في إقامة حواجز ومنشآت عسكرية.
التقدّم في تأسيس لجنة إدارة غزة يمثّل محاولةً للخروج من مأزق، وبحثاً عن حلول، وتقليلاً للخسائر
ويبدو مقترح تشكيل لجنة إدارة غزّة نقطةَ التقاء بين ثلاثة أطراف في حالة أزمة، رغم اختلاف الرؤى بين حركتي فتح وحماس ومصر، والتقدّم في تأسيسها يمثّل محاولةً للخروج من مأزق، وبحثاً عن حلول، وتقليلاً للخسائر. بالنسبة إلى “فتح”، هي فرصة لعودتها إلى القطاع، وتمثيلها الفلسطينيين في غزّة والضفة، وتتمسّك بأن تكون إدارة اللجنة تابعةً للسلطة في رام الله من حيت التشغيل والتكوين، بوصف أن مستقبل غزّة وإدارة القطاع مسؤولية السلطة دون غيرها. وبالنسبة إلى “حماس” يخفّف تشكيل اللجنة عنها الضغوط والانتقادات، ويسهّل وصول مواد الإغاثة وتوزيعها، وتبدو موافقتها على تشكيل اللجنة، اصطفافاً مع خيار المصالحة، وتأكيداً على وحدة الأراضي الفلسطينية، ويُظهِر للجمهور أنها غير متشبثّة بالسلطة، وتتفاهم مع رام الله، وفي الوقت نفسه، تنسّق مع الفصائل، وتطالب بتمثيلها، ضمن مسار تشكيل حكومة وحدة وطنية. لكنّ مصر تنطلق في طرحها من ضرورة معالجة الأزمة سريعاً من دون انتظار تشكيل حكومة جديدة، وركّزت في نقاط رئيسة منها ضرورة اللجنة ومهامّها، وتركت التفاصيل إلى المستقبل، بهدف الوصول إلى توافق حول فكرة اللجنة، وإعلان “حماس” و”فتح” الموافقة عليها مبدئياً، الذى يعني للقاهرة عودة إشراف السلطة الفلسطينية على معبر رفح، وتدفّق المساعدات من خلاله، وتخفيف الأزمة الإنسانية، والحدّ من معدّلات الهجرة بعد انتهاء العدوان، الذى يمثّل هاجساً مصرياً، إذ لا تسطيع القاهرة، وفق تقديرات أمنية، استيعاب موجات هجرة محتملة في ظلّ صعوبة سبل العيش في القطاع، وتريد هي والأردن وقف التوجّه الإسرائيلي نحو تهجير سكّان القطاع والضفة.
ويتّصل مقترح اللجنة بدور الوساطة المصرية، من أجل إقرار الهدنة وتبادل الأسرى، في ضوء علاقة القاهرة بواشنطن، التي سترحّب بإبعاد “حماس” عن واجهة القيادة، كما يعطي هذا المتغيّر قيادةَ الاحتلال فرصةً للإعلان أحد أهدافه الرئيس؛ إزاحة حكومة حماس سلطةً تدير القطاع. وكانت إسرائيل أعلنت سابقاً تحفّظها على نقل إدارة القطاع إلى “فتح”، إلّا أن غياب “حماس” قيادةً يعدّ مكسباً سياسياً لإسرائيل، إلى جانب إضعاف قدرات فصائل المقاومة.
ويأتي المقترح أيضاً، ليوظّف موقفاً أميركياً تبلور أخيراً بشأن الوضع الإنساني، طرح تيسير إسرائيل نفاذ المساعدات في مقابل استمرار الدعم سياسياً وعسكرياً، وأمهلت الإدارة الأميركية تلّ أبيب (منذ 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) شهراً لاتخاذ خطوات للتصدّي للأزمة الإنسانية في القطاع، وطالب وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، وزير الأمن الإسرائيلي (قبيل إقالة الأخير) باتخاذ إجراءات لزيادة المساعدات، إضافةً إلى مباحثات الوكالة الأميركية للتنمية مع سفير تلّ أبيب في واشنطن لتحسين الوضع الإنساني، وإلا ستواجه المساعدات العسكرية الأميركية قيوداً، هذا إلى جانب تصريحات لمسؤولين آخرين، منهم سفيرة واشنطن خلال اجتماع مجلس الأمن، التي أشارت إلى تجويع الفلسطينيين في جباليا.
يأتي مقترح لجنة إدارة غزّة المصري بعد فشل إسرائيل في تكوين إدارة أهلية، من عائلات وقيادات محلّية في القطاع
ويأتي المقترح بعد فشل مشروعات إسرائيلية لتكوين إدارة أهلية من عائلات وقيادات محلّية في القطاع، وبعد إخفاق محاولات “فتح” أن تحلّ في مكان “حماس” عبر مجموعات أمنية، وصعوبة فرض مشروعات تدويل بمشاركة عربية. وتأتى اللجنة ضرورةً فلسطينيةً، في ظلّ تعطيل الاحتلال أيّ إمكانية لعمل حكومة القطاع، ومنها محاصرة القطاع الصحّي، وشلّ عمل الطواقم الطبية، والدفاع المدني، والأجهزة الأمنية، واستهداف مجموعات تأمين قوافل المساعدات، وكلّها ضمن أدوات ضغط، وحصار، توسّع دوائر الجوع والمرض، كما جاء في خطّة الجنرالات، التي تكشف خطوات إسرائيل سعياً إلى تطبيقها (ولو جزئياً).
وإجمالاً، يمثّل المقترح نقطة التقاء مصالح بين “فتح” و”حماس” رغم اختلافات المواقف، وبديلاً من تدويل أزمة قطاع غزّة، والتدخّل الخارجي، ويحدّ من سيناريوهات بقاء احتلال القطاع، وإدارته عسكرياً، وهذا يتماسّ مع مصالح القاهرة، كما يُعتبَر المقترح محطّةَ تنشيط لدور الوساطة، وخطوةً تركّز معها القاهرة في الوضع الإنساني، وإعادة تشغيل معبر رفح بإدارة مصرية فلسطينية، مع عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، وتمثيل المكوّنات الاجتماعية والعائلية ضمن اللجنة، ويأتي المقترح ضمن مساحة العمل الممكنة للقاهرة وبتنسيق مع الأطراف العربية والإقليمية، وليس منفصلاً عن علاقتها مع واشنطن، وأخيراً تراهن القاهرة عليه في أن يكون خطوة تيسّر الوصول إلى هدنة، فتسعى إلى الحوار مع “فتح”، وقوىً عربية وإقليمية لتمرير قرار إنشاء اللجنة حلّاً مناسباً للأطراف كلّها في ظرف راهن يزداد صعوبةً على مستويات التفاوض من أجل إقرار هدنة، وتصاعد الأزمة الإنسانية، غير صعوبة إنجاز توافق فلسطيني رغم العدوان الوحشي المستمرّ على القطاع، الذي يتّسع في الضفة أيضاً.
المصدر: العربي الجديد