كان اللقاء مع راتب الشلاح بمعية أحد مستشاري رئيس مجلس الوزراء، بعد أن وجهه رئيس المجلس للجوء إلى الشلاح لثقة رئيس الوزراء بأن كلمته “لا ترد عند رئيس النظام” يومذاك، كان ذلك عام 2008، دخلنا إلى مكتبه الكائن خلف منطقة مقهى توليدو بالقرب من جامع بدر.
أدهشتني بساطة الرجل أمام الاسم المرعب وكاريزما الشلاح الذي ارتبط في ذهني كقارئ للمشهد السوري بمرافقته لحافظ الأسد وصوره معه وما ينسب إليه من وقوف ضد الأخوان المسلمين بل ضد حرية السوريين، الذي كان بالنسبة لابن فلاح قادم من ريف دير الزور وصار أستاذاً في جامعة دمشق أقرب إلى عالم الأساطير، وكنت قد قرأت كثيراً “عبر كتب يهربها لنا الرفاق” عن عالم الماسونية السوري والبرجوازية ودور عائلة الشلاح وصلاتهم بالحكم، بل قلت في نفسي ذات لحظة يقين “وما أكثر لحظات اليقين عند السوريين”:
ومن نَكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أَن يَرَى عَدُوّاً لهُ ما من صَداقتِهِ بُدُّ.
بدأ صديقي “آنئذ” الحديث بالإشارة إلى دور التجار الدمشقيين الوطني، وكيف أنهم منعوا وصول الإسلاميين إلى الحكم، وأن العائلة تمكنت من إنقاذ سوريا في مراحل عدة من العدوان الخارجي لأنهم يفهمون بـ “البزنس“.
مكتب ممتلئ بالأوسمة وشهادات التقدير وخلطة صور عائلية وقيادات عربية، مكتب دافئ وحميمي، لا يوحي بأية سلطة! تساءلت هل حقاً هذا هو الرجل أم هذا رجل يشبهه، طيات وجهه وطوله الفارع، والتعب كان واضحا عليه.
بعد الترحيب وطلب الهوية من أحد الموجودين، بدأ الرجل بالإشادة بصديقي ودوره الوطني، وأنه متعب حالياً، وأنه لا يعرف ماذا يريدون منه، قائلاً: استلم رامي مخلوف كل شيء؟ وماذا بعد؟
كدتُ أن أشفق على الرجل، وأن أومئ لصديقي بأن الأفضل ألا نتحدث بالموضوع خاصة أن الموضوع فيه ظلم كبير وقضية لن يحلها إلا تدخل من رئيس الجمهورية، والرجل بدا أنه هو من يشتكي منهم!
غير أن صديقي أشار إلي بعينيه أن : طنشْ!
بدأ صديقي “آنئذ” الحديث بالإشارة إلى دور التجار الدمشقيين الوطني، وكيف أنهم منعوا وصول الإسلاميين إلى الحكم، وأن العائلة تمكنت من إنقاذ سوريا في مراحل عدة من العدوان الخارجي لأنهم يفهمون بـ “البزنس”.
انشرح صدر الشلاح لإشادة صديقي وحاول تثبيت فكرة: العالم لن يسمح للإسلاميين بالحكم، “البزنس” معلم كبير، ينبغي على السياسيين قبل أن يعملوا بالسياسة أن يعملوا بالتجارة أولاً حتى يستطيعوا أن يديروا المهمات التي تلقى عليهم!
كانت بداياتنا كعائلة بالاقتصاد الزراعي ثم الصناعي، انتقلنا مع تحول سوريا إلى دولة من بيع المواد قبل تصنيعها إلى تصنيعها ثم بيعها، حاولنا صناعة توازنات محلية وإقليمية ودولية عبر الماسونية لكن اليوم بفضل تربية حزب البعث صارت شيئاً مداناً مع أنها كانت إشارة طبقية وحالة أخلاقية وكلها كانت معبراً عالمياً لكي تكون جزءاً فاعلاً فيه.
كنت أراقب، وأنتظر أن ينهي حديثه الطويل كي نفاتحه بما نحن قادمون لأجله، لكنه استرسل في الحديث كأنه يبث شكوى لعلمه بأثر صديقي في القرار الاقتصادي السوري متمثلاً برئيس مجلس الوزراء آنئذ!
انتقل إلى الحديث عن الخليج والسعودية والسودان: اتخذت من بيروت مقراً لي، ما فتح لي باب الثراء بصراحة ليست التجارة التقليدية بل الاستيراد والتصدير خاصة المواد الغذائية ومواد البناء.
الثقة والسمعة محورا العمل التجاري، أعلم أنها لم تعد لها تلك الأهمية الكبيرة في زمن العقود و”الأونلاين” لكن من خلال الثقة وسمعة العائلة حصلت على كل فرصي في الاستيراد والتصدير.
الوالد معلم كبير، ليس أستاذاً جامعياً كحالة صديقك “وأشار إلي” لكن الحياة علمته وأعطته مئات الدروس فتعلم منها وعلمها!
وتابع: ينبش سوريون كثيرون في سيرة العائلة ويلقون التهم علينا لأننا عائلة ناجحة لها سمعتها: هذا يقول يهود وهذا يقول ماسونيين وهذا يقول حصلوا على فرصهم لأنهم موالون للحكم، ونسوا أننا أكثر من تعرض للأذى نتيجة التأميم!
جدّد المضيف القهوة لنا وله من دون أن يسألنا، وتابع شكواه أو لنقل بثّه لما يعتلج في صدره:
التاجر إن كانت لديه قيم أخلاقية ودين ومن عائلة محترمة أكثر من يفهم البلد والحياة!
السياسيون يعتقدون أنهم الأقدر على إدارة البلد، لكن مهارات التاجر هي الأهم في بناء الدولة! لذلك نحن كعائلة لم ندخل ملعب السياسة لأننا لن نكون نحن في ميدان السياسة، التجارة حسابات صادقة ومدخل ومخرج، أما السياسة فلعب في الكلمات!
نحن كما تعلم نشارك في كل الوفود ونسافر مع السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس الوزراء إلى كل البلدان ونحضر كل الاستقبالات لكن نعرف أين يبدأ دورنا وأين ينتهي!
يظن كثيرون أننا حصلنا على ما حصلنا عليه نتيجة لعلاقتنا مع السلطة، الواقع أن التجارة لا تنفصل عن السلطة، وهي علاقة تبادلية، إلا في زمن رامي مخلوف صارت صفقات وشطارة واستثناءات! يشهد الله أن ما كنا نطلبه لأنفسنا كعائلة “بيت الشلاح” نطلبه لكل التجار الآخرين!
تجار كثيرون لا يؤمنون اليوم بتجارة الخضار والثوم والبصل وقمر الدين بل يبحثون عن صفقات كبرى، وقد نسوا مفهوم “البركة” وتأمين حاجات الناس اليومية ودورهم القيمي والأخلاقي والاجتماعي.
السوريون، اليوم بعد رحيله، أخذوا بنبش سيرته، وهذا فعل معتاد أثر وفاة كل شخصية عامة، وما قام به، وموقفه من النظام الذي يحكم دمشق، وموقفه من الثورة السورية ودوره ودور عائلته الاجتماعي والخيري والتجاري والوطني.
الشركات العالمية حين تريد أن تفتتح فروعاً لها في بلد ما تبحث عن الخبرة والتسهيلات والضمان والأمان، أي: من لديه خبرة في عوامل النجاح والعمل التجاري، وكذلك من يسهل عملياتها واستيرداها وتصديرها، وهذا متوفر لدينا كعائلة لها تاريخها لذلك عمل عدد من أفراد عائلتنا بالسيارات أو البناء أو سواهما. وهو ما لم يكن له أهمية من قبل حين كان السوريون يأكلون مما ينتجون أو ما يصنعون، تغيرت مفاهيم الحياة وطرائق الاستهلاك وعادات الناس فكان لا بد من تغير مفاهيم الاستيراد والتصدير.
ضقتُ ذرعاً بهذا الدرس الاقتصادي الطويل، فجأة من دون مقدمات، توقف الرجل وقال: قل لي لماذا أرسلك السيد رئيس مجلس الورزاء!
بدأ صاحبي بتقديم سرديتنا له، والمواضع التي يمكن أن يساعد فيها، وبدا هاهنا وجه آخر من الرجل، إذ تبين أنه عارف متعمق بكل تفاصيل البلد ومراكز القرار، وظهر أن زهده بالسياسة مما قاله قبل قليل ينم عن معرفة مبطنة لكنه استغناء العارف وليس الجاهل!
عاد إلى سيرته الاقتصادية كنوع من الاستراحة مما طلب منه كأنه يفكر في المداخل والمخارج: التجارة تعني تأمين حاجات الناس بربح معقول وليس بجشع أو استئثار للتحكم بالسعر، لا تعنيني التسميات، يعنيني الناس! والتجارة تنجح في جو الأمان لذلك لا بد لها من علاقة جيدة مع السلطة، كي تقوم بعملها على أكمل وجه!
يتعب من الحديث، يلح عليه أحد العاملين بأن اتصالاً مهماً ينتظره، ينظر إلى الرقم، قل له: سأعيد الاتصال به بعد خمس دقائق.
يلقطها صديقي بأنه بات علينا أن نمشي، بعد لقاء خططنا له أنه سيكون من ربع ساعة، وإذ به يصل إلى ما يقارب الساعتين.
خرجنا من عنده وأنا أحدث نفسي: أهذا هو راتب الشلاح الذي قرأت عنه وسمعت، وله كل هذه “الكاريزما” على مستوى سوريا ويمتلك عشرات ملايين الدولارات، أم ذلك شخص آخر يشبهني، يشتكي من الظلم وتغير الأحوال والبلاد والعباد!!
السوريون، اليوم بعد رحيله، أخذوا بنبش سيرته، وهذا فعل معتاد أثر وفاة كل شخصية عامة، وما قام به، وموقفه من النظام الذي يحكم دمشق، وموقفه من الثورة السورية ودوره ودور عائلته الاجتماعي والخيري والتجاري والوطني…
سيجدون كثيرا من النقاط السلبية وسيغمضون العين عن كثير من النقاط الإيجابية، قد يقبلون منطقه ومفاهيمه في ضوء التعدد والتنوع وقد لا يغفرون له، بل قد يلعنونه، وسنبقى نقوم بهذا الفعل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولسان حال كثيرين القول الشعري التالي:
يُغَطّي عُيوبَ المَرءِ كَثرَةُ مالِهِ يُصَدَّقُ فيما قالَ وَهوَ كَذوبُ
وَيُرزي بِعقلِ المَرءِ قِلَّةُ مالِهِ يُحَمِّقُهُ الأَقوامُ وَهوَ لَبيبُ
المصدر: تلفزيون سوريا
التاجر أو شيخ تجار دمشق “راتب الشلاح” من المحفل الماسوني الدمشقي الى رئيس غرفة تجارة دمشق الى شيخ تجار دمشق، ماذا يمكن أن يقدم .للوطن؟ سيحلب الوطن والمواطن من أجل تحقيق الربح، لغياب الوطنية لديه. اليوم بعد رحيله بدأ نبش سيرته وماضيه