“المقاومة” بين الوصاية والتحرير..!

د- عبد الناصر سكرية

.. يعيش الوطن العربي حالة من الصراع المفتوح، ضد مشاريع الهيمنة الأجنبية المستمرة منذ خمسة قرون أو تزيد.. يقاوم ويقدم التضحيات العظيمة، ولا يحقق انتصارا يسمح له بتوحيد قوته لتكون قادرة على حماية أرضه وشعبه من الأخطار والتحديات المتفاقمة.. وفي كل معاركه التحررية تترد كلمة مقاومة تعبيرا عن إرادة التحرر من الاحتلال الأجنبي ومن النفوذ الأجنبي المباشر أو عبر الهيمنة غير المباشرة بالأدوات المحلية والادوات المصنعة تصنيعا لأداء الدور المرسوم لها..
وفي كل معاركه تلك كانت المقاومة تتخذ عنوانا لها يدل بوضوح مباشرة على مضمونها والعدو الذي تستهدفه.. فمقاومة الشعب الجزائري للاحتلال الفرنسي كانت واضحة من خلال تحديد هدفها المباشر: المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي للجزائر.. ومقاومة الشعب المصري للعدوان الثلاثي، كانت تُسمّى المقاومة الشعبية للعدوان الفرنسي – البريطاني – الصهيوني..
وفي العراق، كانت مقاومة شعبية للأطماع الإيرانية في الخليج العربي.. وفي لبنان سنة 1958، نشأت المقاومة الشعبية لحلف بغداد.. وهكذا في كل مرة كان العنوان يحدد الاتجاه والعدو والهدف المراد..
وفي مواجهة المشروع الصهيوني الذي اغتصب فلسطين، لتكون قاعدة استعمارية لتخريب الوطن العربي واحتوائه وتجزئته؛ نشأت مقاومة عربية شعبية ورسمية.. وحتى أواسط سبعينات القرن العشرون كانت هناك مقاومة عربية للإحتلال الصهيوني ومشروعه التوسعي.. وكانت هناك إسهامات عربية رسمية جدية وفاعلة لمقاومته، وفق أسس واضحة وضوابط محددة تضعه في إطاره الصحيح وفق رؤية عربية متكاملة الأبعاد، لطبيعة الخطر الصهيوني وخلفياته الإستعمارية، وتهديده المباشر للوجود القومي العربي..
كانت مصر العربية تتزعم تلك المقاومة، وترعى نشوء مقاومة فلسطينية شعبية مباشرة، لتثبيت الوجود البشري الفلسطيني في أرضه في مواجهة المشروع الإحلالي الصهيوني الذي يريد إقتلاع شعب فلسطين من أرضه، وإثبات فرضياته التلمودية المزيفة المزعومة بأحقيته في ارض بلا شعب..
وفي كل تلك المراحل، كانت المقاومة الفلسطينية والعربية، متمحورة حول رؤية واضحة تتعلق بتحرير فلسطين والأرض العربية المحتلة، لتكون جزءا أصيلا من تكوين أمة عربية واحدة موحدة تاريخيا، لها الحق في تأسيس دولتها العربية الموحدة..
بعد تلك الحقبة التي تلت حرب 6 تشرين – أكتوبر 1973, بدأت تتراجع تلك المفاهيم لتحل محلها تسميات لا تمت إلى الواقع الموضوعي برؤية واضحة مباشرة.. ولا تبين الأهداف العامة المطلوبة.. فصار الحديث عن مقاومة فلسطينية، وكأنها مقطوعة الصلة بالواقع الشعبي العربي..
ومع رفع شعار: “القرار الوطني الفلسطيني المستقل، “راحت” المقاومة الفلسطينية” تبتعد تدريجيا عن بعدها العربي؛ الشعبي على الأقل؛ لتكتسب صفة إقليمية فلسطينية عصبوية إلى حد ما.. ثم راحت تتدحرج في طريق متعرج مع إتفاقية كامب ديفيد الخيانية.. لكنها عادت فإكتسبت بعدا شعبيا عربيا حين أسهمت أحزاب وطنية لبنانية بفعالية إلى جانب قوات الثورة الفلسطينية في مواجهة الإجتياح “الإسرائيلي” للبنان عام 1982..
ثم عادت تتراجع حتى وصلت إلى طريق مسدود كانت نهايته مع إتفاقية “أوسلو” المشؤومة، والتخلي عن اهدافها ومشروعيتها كثورة.. وفقدت صفتها كمقاومة فرضيت أن تتحول إلى سلطة مع ما في ضوابط السلطة ومحدداتها وقيودها من إلتزامات ضيقة معيقة، ومن مصالح شخصية وفئوية ومن صراعات على المنافع والمناصب والمرجعيات.. فكانت النتيجة أن تحولت قطاعات شعبية فلسطينية واسعة من مواقع الثورة إلى مواقع الموظفين الذين ينتفعون بالرواتب الشهرية والمنافع والخدمات الشخصية، وكل ما يفتح المجال للفساد والمحسوبيات.
وهكذا، فقدت المقاومة الفلسطينية، الكثير من زخمها النضالي وبعدها الشعبي سواء الفلسطيني أو العربي.. وأخطر ما في هذا المآل؛ أنها فتحت المجال واسعا جدا لكل اصحاب الغايات والمصالح من كل نوع ومن كل ساحة للخوض في مزايدات متنوعة، أضرت جميعها بالقضية وبعدها التحرري والنضالي..
اتخذت تلك المزايدات اتجاهين متعاكسين، نظريا وعمليا، ولكنهما قد يشتركان في بعد متقارب في نهاية المطاف..
الإتجاه الاول: ذلك الذي كان ينتظره دعاة ما يسمى بالسلام، فراحوا يخوضون في حديثه ودوافعه ومصالحه وإلتزاماته، حتى وصل بهم الأمر للوقوع في فخ الإعتراف بالكيان الغاصب، ثم تطبيع علاقاتهم به ثم إقامة مشاريع متنوعة، بالتعاون معه مع ما يعني ذلك من أضرار على مجمل المصالح العربية الوطنية منها والقومية ،وعلى مجمل المصير العربي المهدد بأطماع التوسع الصهيوني لبناء مملكة بني صهيون الإستعمارية..
وكان المبرر العملاني الذي تغطى به هؤلاء، هو تلك الإتفاقية المخزية “أوسلو”، بإعتبار أنها إعتراف فلسطيني بوجود دولة الإغتصاب ومشروعيتها.. فماذا يبقى لأولئك “المسالمين” من مبررات لرفض آعتراف وتعامل كمثل إعتراف وتعامل ركن فلسطيني بارز !..
الإتجاه الثاني: إتخذ لنفسه صفة المقاومة، ورفض الإعتراف والتطبيع والتعامل..
وإذا كان مؤدى هذا الإتجاه هو قيادة كل مقاومة شعبية للمشروع الصهيوني وإمتداداته، مع ما يستدعي ذلك من رؤية متكاملة وبرنامج عمل مرحلي وأهداف واضحة محددة، إستنادا إلى طبيعة ونوعية وأبعاد المشروع الصهيوني وأخطاره المتفاقمة.. إلّا أن الوقائع الميدانية إتخذت لمساراتها أبعادا مختلفة، أسهمت في إحداث إختلاطات في الفهم المطلوب، وإشتراكات في الأهداف خرجت بالمقاومة عن مضمونها الإيجابي الجامع؛ كما أسهمت في فتح مجالات واسعة لتدخلات متنوعة، سمحت لأطراف غير عربية بالدخول على خط المقاومة، مع ما يعني ذلك من إحتمالات التوظيف والإستفادة الفئوية على حساب الأهداف العامة..
لم يكن أصحاب الإتجاه الأول دعاة الإعتراف والتطبيع والتعامل؛ بحاجة إلى مبررات لتغطية نهجهم.. يكفيهم موقعهم بما فيه من مصالح وإلتزامات وقيود لا يستطيعون الفكاك منها وإن أرادوا؛ فضلا عن أن كل الدلائل تشير إلى أنهم لا يريدون فيما يبدو لإرتباط وجودهم بإستمرار بقاء وهيمنة المشروع الصهيوني.. وهم بهذا يقطعون كل صلة مهما كانت صغيرة بأي مشروع للمقاومة، فلا يعود لازمًا أي حديث عنهم في سياق عرض لواقع المقاومة وضوابطها سوى أنهم قد أصبحوا عائقا إضافيا أمامها: يأخذ من قوة الموقف الشعبي العربي ومقاومته؛ ويضيف إلى قوة العدو قوة زائدة، مع ما في هذا من معان وأخطار وآفاق مستقبلية سلبية..
اما أصحاب الإتجاه الثاني المقاوم، والرافض للاعتراف والتطبيع، فقد توزعت بواعثه وتطلعاته على ثلاثة روافد رئيسية ..
الرافد الاول: وهو القطاع الشعبي الفلسطيني العريض، الذي لم يقبل “إتفاقية أوسلو” ونتائجها ومتفرعاتها، مصرًا على تبنّي خطّ المقاومة..
التغير النوعي الذي طرأ على هذا القطاع الفلسطيني العريض، كان تزعم الإتجاه الديني الإسلامي لقيادته.. ومع الاهمية الفائقة للبعد الديني كعامل أساسي في الصمود والعطاء والتضحية، ورفض المشروع الصهيوني ومقاومة الإحتلال، وتحمل تبعات هذه المقاومة وأثمانها الفادحة؛ إلا أنه لا يعبر عن رؤية موضوعية متكاملة لطبيعة الصراع الذي يخوضه شعب فلسطين، ومن خلفه قطاعات شعبية عربية واسعة؛ فيختصره بالجانب الديني، وهو ما شكل ثغرة في خط المقاومة ونهجها، جعلها قابلة لتدخل أطراف غير عربية في موضوعها، وإسباغ طابع سياسي خاص بها، بعيدا عن جوهرها التحرري ببعديه الوطني الفلسطيني والقومي العربي..
وإذا كان التخلي الرسمي العربي عن هذا الخط وهذا الإتجاه؛ قد شكل مبررا أو دافعا لقوى المقاومة ذات الطابع الديني للتعاون مع أطراف إقليمية غير عربية؛ كتركيا وإيران مثلا؛ إلا أنه سمح لتلك القوى الإقليمية بتوظيف دعمها للمقاومة “الإسلامية”، لصالح مشروعها السياسي الخاص بها.. الذي لا يخفى على أحد، ويتمثل في التوسع في المشرق العربي، لإعادة إحتلاله كما كان الحال قبل الآسلام؛ يوم أن كانت بلاد فارس تحتل أجزاء كبيرة من أرض العرب، أو لإعادة بناء “دولة الخلافة الإسلامية”، يوم كانت تركيا قاعدة ومركز تلك الدولة الواسعة الممتدة..
الرافد الثاني: وهو الذي يتمثل فيما يسمى “محور المقاومة” وتتزعمه إيران، ويتميز هذا الرافد بوجود امتدادات شعبية عربية له.. طابعها دينها مذهبي، وعملها عسكري منظم.. وهو يستند إلى مسانداته لروافد المقاومة الإسلامية الفلسطينية، ليفرض نفسه قائدا وحيدا “للمقاومة”، ومتحدثا بإسمها ومفاوضا عنها، وبالتالي، الأقدر على توظيف تضحياتها وإستثمارها لصالح بقاء وإمتداد نفوذه في المنطقة العربية.. ما يسمح له بذلك ثلاثة أسباب مهمة:
الأول: المساعدات العينية التي يقدمها للأطراف الفلسطينية المقاومة..
الثاني: إلتضحيات والخسائر البشرية الكبيرة التي تقدمها تنظيماته الحزبية العربية، بخاصة في لبنان، في المواجهات العسكرية المستمرة مع العدو الصهيوني.. وإن كانت مضبوطة بما يسمى قواعد الإشتباك والخطوط الحمر..
ونظرا لأهمية إستمرار أعمال قتالية في مواجهة هذا العدو، منعًا له من الإستقرار على الأرض العربية، والإطمئنان إلى مثل هذا الإستقرار؛ فإن مواجهات الأحزاب والتنظيمات العربية المرتبطة بإيران، وما تقدمه من تضحيات بشرية غير قليلة؛ تلقى الترحيب من قطاعات لا بأس بها من العرب غير الرسميين، تحت بند ضرورة استمرار المقاومة.. بخاصة، مع غياب اي طرف عربي مقاوم؛ مما يجعله يستفرد بإعلام المقاومة وتأثيره المهم على كثيرين ممن لا يدركون خطورة مشروع التوسع الإيراني على حساب الوجود العربي، أو ممن يقللون من شأنه فيعطون الأولية لقتال دولة الإحتلال.
المشكلة الأساس مع هذا الرافد الذي يشكل مرتكز “محور المقاومة”، أنه يتحدث عن “مقاومة”، ولا يحدد أيّ “مقاومة” يعني ويريد؛ وما هي أهدافه الحقيقية من قتاله للعدو.. يقاتل ويقدم التضحيات ولا يتحدث عن تحرير أرض عربية.. وهو لذلك لا يبذل جهدا واضحا لتوعية جمهوره الخاص أو الرأي العام الشعبي العربي والإقليمي؛ بطبيعة وأبعاد وخلفيات وغايات المشروع الصهيوني وإغتصابه لفلسطين، وعدوانه المستمر عليها وعلى شعبها العربي.. كما أنه يربط “المقاومة”، بالإنتماء المذهبي، فيقزّم الفكرة ويفقدها إمتدادات شعبية واسعة جدا.. ومما يبدو من ممارسات كثيرة ووقائع ومواقف أكثر؛ فإنه يبدو قابلا بوجود دولة الإحتلال، وإن كان متخاصمًا معها على حدود النفوذ وسعة الدور أو مداه..
الرافد الثالث لـ”المقاومة”، وهو القطاع الشعبي العربي الواسع العريض.. وهو بدوره منقسم إلى عدة أقسام:
الاول، وهو الذي يمثل الموقف العربي القومي الجدي والمدرك لطبيعة المشروع الصهيوني وأبعاده الإستعمارية، ويتخذ منه موقفا عدائيا رافضا لوجوده.. وهو يشارك في أصناف متنوعة من المقاومة المدنية، من دون أي دور عسكري قتالي.. اللهم إلا النذر اليسير من أفراد عرب منضوين في صفوف جماعات مقاتلة.. المشكلة الأبرز في هذا الرافد إفتقاده للمؤسسات والأطر التنظيمية التي تدير وتفعل وتصعد وتطور أساليب المقاومة المدنية.. بخاصة مع تراجع وضمور ما كانت يوما أحزابا وطنية وقومية ويسارية وتقدمية.
الثاني، وهو الذي يؤيد مشاركة محور المقاومة وإيران في الأعمال العسكرية، للأسباب التي ذكرناها آنفا، وأبرزها غياب أيّ مشاركة عربية جدّية، لا بل المشاركات العكسية الرسمية المتنوعة.
الثالث، وهو قطاع اللا مبالين السلبيّين الذي سئِموا أو يئِسوا أو تستغرقهم تفاصيل الحياة اليومية أو ضحايا البطش والفساد والإستبداد..
خلاصة القول: أن مفهوم “المقاومة”، يتراجع من حيث مضمونه الشامل كصراع وجودي – حضاري، وليس مجرد أعمال عسكرية قتالية..
فبعد أن كانت مقاومة عربية شاملة تقود حركة تحرر وطني وقومي لتحرير الأرض والإنسان، وإستعادة فلسطين، لتعود جزءًا أصيلًا من الأمة العربية؛ تمهيدا لتوحيد الوطن الكبير، وإقامة دولته الموحدة؛ أفقدها محور “المقاومة”، مضمونها الإيجابي الواسع، لتصبح أعمالا عسكرية وقتالية، وإن كانت بطولية في بعض الأحيان.. وبعد أن كانت حركة تحرير وطني وقومي، أصبحت “مقاومة دينية إسلامية”، ثم مذهبية، لتفقد بذلك كثيرا من جوانبها التحررية المكملة الأخرى..
أما في الجانب الفلسطيني، فتكتسب “المقاومة”، سمات بطولية رائعة، تجعلها ملتصقة بالأرض، متمسكة بتحريرها مما يخرجها حتى من إطار شعاراتها النظرية، لتندمج في واقع المقاومة الموضوعية الشاملة، بحكم الوقائع الميدانية، وما فيها من تضحيات عظيمة وصمود رائع من جهة؛ وبحكم إكتساب المزيد من الوعي والتعمق في معرفة العدو، بحكم التجربة والخبرة العملية والميدانية..
ومع كل هذا؛ فهل لـ”المقاومة”، محددات موضوعية لضبط إيقاعها وتفعيل المشاركة الشعبية فيها، وإبقائها في إطارها الشعبي والعربي، فلا تقدر أطراف ذات مصالح خاصة فئوية أن تستخدمها؟!
وهل يمكن تخليصها ممّا علق بها من حيثيات غير ملائمة، لتعود عربية شعبية حرة في سياق حركة التحرر العربية الشاملة؟!
كيف يمكن ذلك وعلى أيّ أسس؟! وعلى من تقع مسؤولية هذه
المهمات الجسام؟! وهل يمكن هذا؟ أم فات الأوان؟!

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى